الخطب والمحاضرات

المترفون

2010-03-03



بسم الله الرحمن الرحيم

الــمــترفـــون

20/ربيع أول/1429هـ

مسجد خالد بن الوليد

 

الحمد لله الذي لا يحب الفساد، ولا يعجزه أهل البغي و العناد، أذل النمروذ لما تعزز بجنده، ونكله وخسف بقارون لما بغى وتجبر بأمواله، وأهلك الوليد لما تفاخر بتجارته ورجاله. والصلاة و السلام على من محا الله به رذائل الجاهلية وأنجاسها، وأذهب به من النفوس أمراضها وأدناسها، و شاد به للفضائل قواعدها وغراسها، صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، و صحابته العقلاء الأكياس. و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

عباد الله:

أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه حق تقواه و تحلوا بالصفة التي اتصف بها الله ورسوله (الغَيرة) فإنه لا إيمان لمن لا غيرة له، و لا شهامة ولا رجولة لمن لا حمية و أنفة له.

عباد الله:

يقول الله تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] ([1]) جاء في زبدة التفسير - مختصر تفسير الشوكاني رحمه الله -:(المترفون هم المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، وهم الجبارون المتسلطون و الملوك الجائرون (و الأغنياء الفاجرون) ). و قال سيد قطب - رحمه الله -: (والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم و تأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلَغُ في الأعراض و الحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، و نشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها، و الآية تقرر سنة الله هذه ) ([2]).

فالمترفون: أول ما يهلكون أنفسهم لأنهم بكبريائهم وطغيانهم وجحد نعم الله عليهم يعرِّضون أنفسهم لعقوبة الله الماحقة، فهم أول من يدخل في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ{44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ([3]).

عباد الله:

هذا هو مصير المترفين من كل الأمم سابقتها ولاحقتها مسلمها و كافرها، وهم الذين يسلطهم الله تعالى على القرى المستحقة للعذاب والعقوبة، من قادة سياسيين وعسكريين وظلمة منحرفين ومثقفين ثقافات الخنا والمجون، الثقافات الشيطانية التي تصادم الحق والوحي والاستقامة، ومن أغنياء يُسخرون غناهم وأموالهم في نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، هؤلاء جميعاً هم المترفون المذمومون الذين حكم الله عليهم بالهلاك في أنفسهم، وإهلاك قراهم وأممهم.

وقدوة مترفي الحكام هو فرعون، الذي تعرفون قصته تماماً، تعرفون ما نزل به وبقومه، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ{54} فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ{55} فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} ([4]).

وقدوة منحرفي الفكر والثقافة المنحرفة بلعام ابن باعوراء، الذي قال الله تعالى عنه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي اتبع المكاسب المادية و الشهوات المبهجة {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ}([5]).

وقدوة الأغنياء المترفين المتابعين لأهوائهم وشهواتهم هو قارون، الذي قال الله تعالى فيه: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ{80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ{81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ([6]).

عباد الله:

هذا هو شأن المترفين حين يبطرون ويتكبرون ويردون الحق ويصرون على الباطل، وصفهم القرآن وقرر أثرهم العظيم على أنفسهم وعلى أوطانهم وعلى مواطنيهم، و تلك هي صور الترف و الانحراف في الجوانب المهمة من جوانب التأثير على الأمم.

القيادة السياسية، والقيادة الفكرية، والقيادة الاقتصادية والمالية، أبرز رموزها فرعون وبلعام وقارون، وذلك هو مصيرهم المشؤوم و نهايتهم الكارثية، فهل يرضى أحد أن يكون مثلهم في منهجه و توجيهه؟ و هل يحب أحد أن ينتهي إلى ذلك المصير الذي صاروا إليه في الدنيا وفي الآخرة أشد وأبقى؟ لا أظن أبداً أن مؤمناً عاقلاً مصدقاً بالقرآن يرضى لنفسه أن يسلك سبيلهم، ولا يرضى بمصيرهم، ولمثل هؤلاء قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ([7]) .

أيها الإخوة المؤمنون:

هذا ما يفعله المترفون بأنفسهم والله يقول: [ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] ([8]) فالتدمير يقع على القرية كلها. إذن كيف يتسبب المترفون في هلاك و تدمير القرية كلها في تدمير الشعوب والأوطان جميعاً.

نعم: إن سبب تدمير الشعوب والأوطان جميعاً بما يفعله المترفون، هو أن ضِعافَ النفوس وأصحاب الشهوات واللاهثين وراء المال والجاه و حطام الدنيا الذي بأيدي المترفين يتابعونهم على ما هم عليه، ويشجعونهم على ذلك، و يكونون هم الأدوات التي ينفذ بها المترفون أعمالهم القبيحة، فمنهم الشباب الذين يقيمون برامج المترفين، ومنهم النساء اللاتي يقدمن لهم الخدمات المحرمة، ومنهم الجمهور الذي يصفق و يصفر ويشجع، وبذلك يكون الجميع مشترك في الذنب مستحق للعقوبة، قال تعالى: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] ([9]) وفي البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا - وحلَّق بين أصبيعه الإبهام و التي تليها - قالت له: يا رسول الله أنهلَكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) ([10]).

فشؤم المترفين لا يخصهم بل يعم الجميع؛ لأن الجميع يشاركون فيه ولو بالرضا به والسكوت عليه، ولا ينجي الله تعالى إلا من أنكر ذلك المنكر قال تعالى: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] ([11]).

عباد الله:

إن خطابي بهذه اللهجة الشديدة على أثر تلك الليلة السوداء، ليلة الغناء والرقص واختلاط الراقصين بالراقصات، وإبراز فتياتنا الصغيرات يرقصن أمام الجماهير، بل أمام كاميرات الفضائيات اللاتي نشرن صورهن إلى جميع أنحاء العالم؛ ليس لأن ما حصل هو أكبر ذنب ولا أنه هو الكفر أو الشرك، فهو ذنب من الذنوب و معصية من المعاصي، ولكن الذي كبَّره وأهاج نفوسنا ضده و جعلنا نعلن نكيرنا عليه، أن الذي يتبناه كبراء القوم، نعم كبراء سياسيين وكبراء اقتصاديين وماليين، يعني قيادة البلد بجميع جهاتها، وهذا يعني أنه أصبح من منهج حياتنا ومن مظاهر مجتمعنا و أننا كلنا به راضون.

ويزداد سوأً عندما يقال: إن هذا تراث حضرموت، هذا تاريخ حضرموت، هذه حالة حضرموت الاجتماعية والثقافية، شباب حضرموت مغنون وراقصون، ونساء حضرموت راقصات لا يمنعهن حياء من الرقص أمام الرجال، واذا فعلن ذلك في العلن، فماذا يمكن أن يفعلن في السر؟؟ ولا ينفع أبداً القول بأن هؤلاء من محافظات أخرى، فالمشاهِد لا يعرف إلا أن هؤلاء من حضرموت، وعلى أرض حضرموت، وأمام قيادات وجماهير حضرموت.

والفتيات البريئات الطاهرات، سيُصنفن أنهن على طريق الفن، على طريق الغناء، على طريق الرقص، فيطمع من يريد أن يستثمر في قطاع السياحة الترفيهية بأنه سيجد بغيته فيهن، فهل يليق أن نصوِّر حضرموت العلم والتاريخ و الثقافة والأمانة والديانة والدعوة إلى الله و الجهاد في سبيل الله بهذه الصورة؟.

وهل أردك المنظمون لهذا العمل هذه اللوازم والنتائج؟ ولقد تواصلنا منذ اللحظة الأولى مع من نظنهم أهل الشأن، ونظن أنهم قادرون على مساعدتنا في منعه، ولكن ظنوننا ذهبت أدراج الرياح، وسبق الإنكار الشديد على ذلك مشافهة وكتابة وخطابة و لكن لا حياة لمن تنادي. فالله المستعان.

الخطبة الثانية

الحمد والثناء:

إن عمل المترفين والمفسدين لم يقتصر على مثل هذه الأعمال الظاهرة، ولكن الذي ظهر إنما هو عنوان يخفي تحته تفاصيل هي الفساد الحق، هي الفاحشة الظاهرة والباطنة، هي ما لا يقره حتى هؤلاء الذين أقاموا فعاليات الغناء والرقص، نعم لا يمكن أن يقروا ما يحدث في الخفاء في بعض الفنادق، في بعض الأماكن، في بعض الحافات. ففي بعض الفنادق أفلام إباحية، وفضائيات داعرة، و تجمعات على الخنا والفواحش، و قد بلغ علمها إلى المسئولين، و لكن جهودنا إلى الآن لم تثمر الثمرة المطلوبة.

 

 

[1] {الإسراء:16}

[2] في ظلال القران ج1 ص5ـــ

[3] الأنعام 44 -45

[4] الزخرف 54 -55

[5] الأعراف 175 – 176

[6] القصص 76 -77 -78 – 79 – 80 – 81

[7] {يوسف:111}

[8] {الإسراء:16}

[9] {الأنفال:25}

[10] البخاري ( 3/ 1317) رقم 3403 ، ومسلم ( 4 / 2208 ) رقم 2880.

[11] {الأعراف:165}

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم