الخطب والمحاضرات

الهـجـرة و التـغيـير

2010-03-05



بسم الله الرحمن الرحيم

الهـجـرة و التـغيـير

محاضرة عام 1431هـ

مسجد عمر بالمكلا

 

الحمد لله الذي حكم أن العاقبة للمتقين، وأن هلاك الدنيا وعذاب الآخرة نهاية الظالمين، ومصير الجبابرة و المتكبرين، والصلاة و السلام على عبده و رسوله القائل: (إن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب و إن مع العسر يسراً ) صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته أولي العز والتمكين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة:

فإن سبب اختيار هذا الموضوع لهذه المحاضرة وفي هذه المناسبة بالذات هو العمل على إعادة الأمل لهذه الأمة، التي نزلت بها من النوازل والدوائر ما يقتل الطموح، و يخيب الآمال، ويفقد الثقة بالنفس، بل يشكك البعض في تمكين الله للإسلام وأهله وهيمنته وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون، إن الحديث عن الهجرة كثير، ولكن الجانب الذي سوف أتحدث عنه في هذه المحاضرة من أهم ما يجب أن يركَّز الحديث عنه، خصوصاً في مثل ظروفنا الراهنة.

إنه جانب التغيير الذي يعقب الهجرة، جانب الفجر الذي ينبثق بعد اشتداد الظلام، الجانب الذي إن عقلناه وعملنا بمقتضاه كشف الله عنا الغمة، وفرج الكربة وأزال الغربة التي نعيشها، وحفزنا على العمل وأزال عنا اليأس وزرع الأمل وحرك النفوس للعمل على تغيير هذا الحال، واليقين إنه سوف يتغير بإذن الله، وذلك بضرب الأمثلة و التعرف على سنن الله الكونية الصادقة التي لا تتغير و لا تتبدل.

إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً من الأمر، ولكنها حلقة من تاريخ الرسل على مر العصور، قال تعالى حاكياً خطاب المشركين لرسلهم [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ]([1]) و قال قوم لوط: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] ([2]) و قال قوم شعيب: [قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] ([3]) قال الشيخ الخضري في كتابه في السيرة (نور اليقين) و هو يتحدث عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: (وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها، من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله.) ([4]).

إن هجرات الرسل لا تكون غالباًً إلا بعد أن تصل الدعوة إلى طريق مسدود مع أقوامهم، وغالباً ما يكون بإجماع أولئك الأقوام على الفتك بذلك الرسول والقضاء عليه وعلى دعوته؛ فيصبح الرسول ومن معه من المؤمنين في أضيق الأحوال و أحلك الظروف، يكاد يغلب على ظنه أنه قد أحيط به و أنه قد غلب على أمره، كما قال تعالى: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] ([5]) عند هذه النقطة تكون الهجرة، هذه هي السنة المطردة.

ولكن سنة: [فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا] ([6]) التي قررها القرآن الكريم في سياق الامتنان على رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الشرح " ألم نشرح " لتكون تثبيتاً له وإزالة لهمومه وترسيخاً للأمل في نفسه. دائماً تأتي هذه اللحظات الحاسمة؛ و لذلك كان من أهداف وعلل القصص القرآني التي دائماً ما ينتهي بتحقيق هذه السنة تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وشد عزمه على مواصلة الدعوة والتصميم على بلوغ الهدف الأسمى لها، قال تعالى: [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ([7]) والعجيب في السياق القرآني المعجز أنه قد أتبع هذه الآية المبينة لحكمة القصص القرآني وأنه التثبيت والموعظة والذكرى- أتبعه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان التحدي للذين لا يؤمنون ولا يكفُّون عن محاربة المؤمنين، والإيحاء إليهم بالعاقبة المحسومة لصالح المؤمنين كما جرت به سنة الله فقال تعالى: [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]. أي و سترون من يتحقق له ما ينظر نحن أم أنتم، قال السعدي - رحمه الله -: (و قد فصل الله بين الفريقين وأرى عباده نصره لعباده المؤمنين و قمعه لأعداء الله المكذبين) ([8]).

- و لنأخذ نموذجين من هجرة الرسل جاءنا بشيء من التفصيل في القرآن لنثبت هذه الحقيقة التي ندعيها:

1) الهجرة الأولى هجرة إبراهيم عليه السلام، و كلنا يعلم قصة إبراهيم مع قومه وماذا كانت نهاية مواجهتهم له؟ حيث عزموا على تصفيته والتخلص منه ومن دعوته بأبشع الطرق وأكثرها وحشية، بحرقه بالنار، غير أن الله قلب عليهم مكيدتهم، وحمى خليله منهم، وجعل الهلاك وسوء مصير الدنيا والآخرة عليهم، قال تعالى: [ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ] ([9]).

بعد الوصول إلى نقطة النهاية في الشدة جاء الفرج و النجاة و حسن العاقبة في الدنيا و الآخرة وقال الله تعالى كذلك: [ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] ([10]) ثم ذكر الله بشارته بإسماعيل وما جرى له من قصة الابتلاء برؤيا ذبحه، وكيف اجتاز ذلك ما ترتب عليه من جزاءٍ حسن، ثم البشارة بإسحاق الذي بشر به مقترناً بالبشارة بيعقوب كما في آية أخرى.

قال ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه: ( لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه خلعة من الله وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل ودعوة الخلق إليه) ([11]) قال السعدي – رحمه الله -: (فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة أمة العرب من ذرية إسماعيل وأمة بني إسرائيل وأمة الروم من ذرية إسحاق ) ([12]).

قلت: ومن أهم العواقب التي نالها إبراهيم بعدما جرى له مع قومه ما جرى وما وصل إليه الحال مما انتهى إلى الهجرة، و ترك الأهل و الوطن في سبيل الله والسير في الأرض لعمل ما يمكن عمله مما يحقق هدف الرسالة التي يحملها - من أهم تلك العواقب الثناء الحسن والذكر الجميل بين سائر الأمم، فأمم سائر الرسالات السماوية مجمعة على حبه وتعظيمه، كل منها يتباهى بالانتساب إليه، قال الله تعالى: [ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآَخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ]([13]) (ومن ذلك البيت الحرام وحجه).

ومن العواقب التي تحسب لإبراهيم كذلك أن أعداءه لا يُذكرون إلا في معرض الذم والتقبيح، يقرن ذكرهم باللعن وسوء الدعاء، لقد تغير الحال وتبدل الوضع وكانت الهجرة خطاً فاصلاً بين حال الشدة والكرب وتسلط الأعداء وأذاهم لإبراهيم وحال المجد والعز والشرف وحسن العاقبة الذي تلا تلك الهجرة. غير أن السؤال المطروح هو: بم حصل ذلك التغير في الحال؟.

والجواب: إنه حصل بالصبر والتصميم والثبات والتصديق القاطع بوعد الله وبذل ما تيسر من الأسباب، لقد أخذ لوطاً وأنزله الأرض التي كتب فيها أن يبعثه فيها رسولاً، ودخل مصر التي لقي فيها هاجَر التي كتب الله أن تكون أماًَ لابنه إسماعيل، وصبر على زوجته الأولى سارة وعاش معها رغم مضي زمن الحمل ومجيء زمن اليأس مثبتاً على زواجها ومحاولاتها حتى أذن الله أن تحمل بابنه إسحاق، وكل ذلك كان بمثابة القواعد التي بنيت عليها ملة إبراهيم، ونشأت منها الأمم المنتسبة لإبراهيم، والسبب الذي دام به الثناء الجميل على إبراهيم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ورفع القواعد من البيت بمكة ليؤسسه مسجداً يذكر فيه اسم الله ويحجه الملايين من البشر كل عام، و يحمل ذكره و يقتدي به و بزوجه هاجر الحجاج في مناسكهم إلى أن يأتي أمر الله.

2) هجرة موسى، ولموسى أكثر من هجرة، ولكن لن أقف إلا عند هجرته مع قومه فراراً من فرعون وقومه حينما عزم على استئصال شأفتهم والقضاء المبرم عليهم، فحينما وصل الأمر بموسى إلى ذلك الطريق المسدود ولم يعد أمامه إلا أن يبقى مستسلماً لبطش فرعون أو يفر بقومه، اختار الفرار لأنه هو السبب الوحيد الذي أمامه لإخراج قومه من ذلك الواقع الأليم وتفادي المصير الأسوأ وهو القضاء المبرم عليهم، وقد صوّر الله الوقت الأخير لمعركة موسى مع فرعون، ففرعون بقوته وبطشه وجبروته يتمادى في إظهار القوة، وجمع كل ما أمكن من الجنود وتعبئة القوة الهائلة لضرب ذلك العدو الذي يعترف أنه قليل وذليل، غير أنه مع ذلك لا يخفي خوفه منه، سبحان الله! لماذا الخوف مع ذلك الفارق الهائل بين الطرفين؟.

إنه ذل المعصية، ذل الكفر والإلحاد، ذل المخلوق الضعيف مهما تظاهر بالقوة أمام القوي العزيز سبحانه وتعالى، رهبة جعلها الله في صدور أعدائه لأوليائه مع كل الفوارق المادية الظاهرة، وأما الطرف الآخر الذي تلاشت أمامه القوة المادية وفقد الأسباب العادية وانقطع أمله من الأرض ومَن عليها، فقد عوض كل ذلك باللجوء إلى الله والفرار إليه والارتماء بين يديه، لقد فعل ذلك بعدما بذل ما قدر عليه من الأسباب المادية؛ فتحقق بذلك نصر عظيم وتمكين كبير، ترتب عليه تحول عظيم في تاريخ البشرية، وحسبنا أن نقتبس من آي الذكر الحكيم ما يصور ذلك في أبلغ صورة قال تعالى: [فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ] ([14]).

إزاء هذا الاستعداد والحراك الكبير لفرعون كان هناك استعداد آخر لموسى وقومه، قال تعالى: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ] ([15]) فجاء الإذن بالهجرة والخروج قال تعالى: [فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ]. وفي سورة الشعراء قال: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ] ([16]) وكان يمكن أن يكتفي فرعون بذلك؛ فإن همه أن يتخلص من ذلك العدو الذي أزعجه وأقلقه، ولكن الله قد كتب أن هلاكه وزوال ملكه يكون بسبب ذلك العدو؛ لذلك جاء النص القرآني معبراً عن ذلك أبلغ تعبير، قال تعالى: [فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم] ([17]).

هذا الذي جرى لموسى وفرعون وقومهما كان نصراً للحق على الباطل، رغم أن سلاح أهل الحق فيه كان الهرب والانحياز عن الباطل بأهله، قال سبحانه وتعالى: [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ] ([18]) وصوّر الله أبلغ تصوير النهاية المأساوية لفرعون وقومه والنكبة الكبرى والهزيمة الساحقة التي لحقت بهم وهوانهم على الله وعلى عباده، بل على الكون كله، فقال سبحانه: [ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] ([19]) وقال في سورة الزخرف [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ] ([20]).

_أما الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ تغييراً لم ولن يشهد له التاريخ مثيلاً، والذي ما زال العالم يعيش آثاره، وينعم بنتائجه وثماره، إنها هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وهجرته صلى الله عليه وسلم لم تأتِ كما هو الشأن في هجرة إخوانه الرسل السابقين إلا بعد أن أقفلت الأبواب وانقطعت السبل أمام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لم تأتِ إلا بعد أن بلغ الطغيان منتهاه، وبلغت العداوة حدها، واكتملت المكايد والمؤامرات التي تهدف إلى القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ومن استجاب له من أصحاب و أنصار، كما قال الله سبحانه وتعالى:[ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] ([21]) لما بلغ الأمر إلى هذا الحد قرر صلى الله عليه وسلم الهجرة والانتقال من بلدٍ وصل أهله إلى هذا الحد من المكر و الكيد والعداء الساخر لله ولرسوله ولعباده المؤمنين.

غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مهد لذلك بما يقدر عليه من أسباب مادية متوفرة، فقد استقطب فئة لا يستهان بها من أهل يثرب إلى الإسلام، ثم بايعهم على النصرة والحماية إذا هو هاجر إليهم، وأخذ عليهم بذلك العهود والمواثيق الغليظة، ولم يدَعهم لمجرد ذلك بل أرسل إليهم من يقوم على ذلك الغرس فيتعاهده ويرويه وينميه ويوسع رقعته؛ فأرسل مصعب بن عمير لذلك الغرض، وعمل مصعب رضي الله عنه عملاً عظيماً في الدعوة إلى الله وإقناع أهل المدينة بالإسلام وإدخالهم فيه أفواجاً، ثم قدَّم الصحابة المتبقين في مكة بين يديه إلى المدينة، ثم وضع خطة محكمة ومتكاملة لرحلة الهجرة واستثمر فيها كل الطاقات المتوفرة، ثم خرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه متوكلاً على الله بعد بذل المتوفر من الأسباب.

وبالفعل عدَّ الله ذلك نصراً وإعلاء لكلمته، قال تعالى معاتباً الصحابة الذين بدر من بعضهم شيئاً من التردد والتلكؤ حينما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك لأسباب مختلفة، وبيّن لهم أن نفرتهم إلى الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليست هي السبب الوحيد لنصرته، وأنه سبحانه غير محتاج إليهم ولا عاجز عن الانتصار لرسوله بدونهم، فقال الله جل ثناؤه: [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ([22]).

نعم إن مجرد النجاة من الهلاك المحقق قد يُعد نصراً وفتحاً مبيناً، إذ العبرة ليست بما يكون في ساحة المعركة في ذلك الوقت فقط، ولكن العبرة بما يترتب على ذلك وبما تسفر عنه تلك المعركة من نتائج، ولما كانت نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكيدة المشركين وتمكنه من الخروج من الأرض التي يحكمون السيطرة عليها والحكم فيها له وللمسلمين، بحيث أصبحت قاعدة لدولة الإسلام، كان هذا هو النصر على الحقيقة، إذ كل ما جرى بعد الهجرة إنما هو تمهيد لقيام دولة الإسلام والقضاء على دولة الشرك في جزيرة العرب، واستمر ذلك التمهيد سنوات معدودة قامت على إثرها دولة الإسلام التي ما زالت ولن تزال قائمة إلى قيام الساعة: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] ([23]).

التغييـــر

هذا عن هجرة الأنبياء جميعا،ً وهذا عن هجرة إبراهيم التي أعقبها تغيير عظيم في تاريخ البشرية، وهذا عن هجرة موسى و قومه التي كانت نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، وهذا عن أعظم هجرة عرفها التاريخ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما ترتب عليها من تغيير لم يشهد له التاريخ مثيلاً، وبعد هذا العرض الموجز تعالوا بنا نستجلي بعض الحقائق الهامة التي أرى أن أمة الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى معرفتها والتيقن منها والعمل بمقتضاها.

الحقيقة الأولى:

إن الباطل قد يظهر وقد يتسلط وينتشر ويهيمن على حياة الناس، وقد يعلوا أصحابه ويُملى لهم حتى يظنوا أنهم قد بلغوا إلى المكانة التي لا يتصور معها ذل ولا هزيمة ولا قدرة على أحد للوقوف أمامهم، و قد تتنوع أوجه القوة، فتظهر قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة اقتصادية وقوة اجتماعية وبشرية، كل ذلك قد يكون وقد يطول ولكن عاقبته الهلاك والدمار وسوء المصير، كما قال الله تعالى: [ وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ([24]) وكما قال الله تعالى: [ بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ] ([25]) وكما قال تعالى: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] ([26]). و قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] ([27]). وقال تعالى: [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] ([28]) قال الرازي في تفسير هذه الآية :(أي من عادة الله إبطال الباطل و تقرير الحق) ([29]).

الحقيقة الثانية:

إن الحق منصور لا محالة، غير أن هذا النصر لا يلزم أن يكون سريعاً بل قد يتأخر، وقد يصيب المؤمنين قبل تحققه أنواع من الأذى والقهر والإذلال، ولكن العبرة بالخاتمة، والعاقبة للمتقين. قال تعالى: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] ([30]). و قال تعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ([31]) قال ابن كثير: (أي قد حكم الله و كتب في كتابه الأول و قدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا و الآخرة وأن العاقبة للمتقين)([32]) وقال تعالى: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ([33]) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (و هذه سنة الله تعالى في خلقه من قديم الدهر وحديثه إنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر عينهم ممن آذاهم.)([34]) ( وقال السدي: لم يبعث الله رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك و تعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا. وقال السدي: (فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا و هم منصورون فيها)([35]).

لكن أمة محمد تحتاج إلى التربية على اليقين بهذه الحقائق، ونزع ما تراكم في نفوسهم من شكوك وظنون سيئة بالله نتيجة الأحداث المتتالية والنكبات المتلاحقة والتربية السيئة التي ربوا عليها.

الحقيقة الثالثة:

إن النصر متوقع لأمة الإسلام برغم ما تعانيه من جهل وضعف في الإيمان وانحرافات في جوانب حياتها، إنها مع ذلك مرشحة للنصر إذا أخذت بالمتيسر من أسبابه لماذا؟.لأنها رغم كل ما فيها من ضعف و معصية وانحراف هي أفضل الأمم من حيث كثرة الخير وقلة الشر فيها. ولك أن تقارن المسلمين بأي أمة من أمم الأرض المعاصرة ثم تستعرض النتائج بتجرد فإن الذي سيظهر لك هو أن الخير الذي لا يزال في المسلمين لا تساويهم فيه أي أمة أخرى، وأن الشر الذي عندهم هو أقل من الشر عند أي أمة أخرى، ونحن غير راضين عن هذا الوضع غير إننا نحب أن تنجلي هذه الحقيقة لإزالة اليأس والقنوط الذي أضحى يخيم على كثير منا فيقعدهم عن العمل والمحاولة للارتقاء بأنفسهم وأمتهم.

إن بني إسرائيل حينما نصرهم الله على فرعون وقومه كانوا أسوأ حالاً منا ضعف نفوس، عمق في الانحراف، محادة لله، إيذاء للرسول، سرعة في الرجوع إلى الباطل.

- قصة القوم الذين يعكفون على الأصنام.

- قصة السامري، غيرهما من القصص.

ومع ذلك انظر لهذا التعبير القرآني الذي يقرر كيف نصرهم الله واختارهم على علم على العالمين قال تعالى: [وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ] ([36]).

قال سيد قطب - رحمه الله - عند هذه الآية: ( ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل على علم بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة .{ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} )([37]).

7) عوامل تحقيق التغيير لهذه الأمة بعد هذا الوضع المزري الذي نعيشه:

1) تغيير ما بالنفس:

أ) من المعصية إلى الطاعة و من الانحراف إلى الاستقامة.

ب) من سوء الظن بالله والشك في وعده وخيره.

ج) العزيمة الصادقة على التغيير مع صدق الأمل في تحقيق ذلك التغيير.

2) إقامة أصل الولاء والبراء على قواعده الصحيحة.

3) اتخاذ الأسباب المادية المتوفرة وفي مقدمتها جمع الكلمة وتوحيد الصف.

 

 


[1] {إبراهيم:13}.

[2] {النمل:56}.

[3] {الأعراف:88}.

[4] نور اليقين ص(96).

[5] {يوسف:110}.

[6] {الشرح 5-6}.

[7] {هود:120}.

[8] تفسير السعدي ( 1/392 ).

[9] الأنبياء ( 68-73).

[10] الصافات ( 98-99).

[11] البداية والنهاية ج1، ص149-150.

[12] تفسير السعدي ص( 652 ).

[13] الصافات ( 108-110).

[14] الشعراء ( 53-56 ).

[15] {الدُخان:22}.

[16] {الشعراء:52}.

[17] {الشعراء 57-68}.

[18] {الصَّافات 114-116}.

[19] ( الدخان 23-29).

[20] ( الزخرف 54).

[21] {الأنفال:30}.

[22] {التوبة:40}.

[23] {التوبة:33}.

[24] {الإسراء:81}.

[25] {الأنبياء:18}.

[26] {الأنعام 44-45}.

[27] {الأنفال 36-37}.

[28] {البقرة:276}.

[29] ( التفسير الكبير 27/144 ).

[30] ( االصافات 171-173).

[31] {المجادلة:21}.

[32] تفسير ابن كثير ( 4/ 330).

[33] {غافر:51}.

[34] تفسير ابن كثير ( 4/84).

[35] تفسير ابن كثير (4/85 ).

[36] . {الدُخان 30-32}.

[37] في ظلال القرآن ص (3214).

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم