الوسـطية في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية
دراسة في المفهوم والدلالات
أحمد بن حسن المعلم
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1)
) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (
حمداً لمن بجزيـل الفضل صيَّرنا من فِرقةٍ وسط في الأمة الوَسَـطِ
جمــاعةِ الحق لا تنفك سائرةً على الصراطِ بلا زيغٍ ولا شَطَـطِ
نقفو سبيلَ النبي المصطفى وكذا أصحابه خِيرة الأسلاف و الفرط
والتابعــين بإحسان ومن مَسَكوا في ذا السبيل بحبل، غير منفَـرِط
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد،كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن دراسة موضوع الوسطية من حيث هي تعتبر مهمة، والحاجة إلى البحث فيها وتحقيقها ماسة نظراً للإقبال الشديد على هذا الباب من العلم، وكثرة المتناولين له بمشارب مختلفة، ووجهات نظر متباينة؛ فكانت الحاجة لدراسته من وجهة النظر السنية السلفية الواقفة عند ضوابط العلم وحدوده الأصيلة في غاية الأهمية، وإذا كان هذا قدر موضوع الوسطية بصوره عامة، فإن دراسته في الجزء المتعلق بهذا البحث " في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية" مهمة بشكل أكبر؛ لأن المعركة هنا أشد احتداماً؛ ولأنه يترتب على هذا النوع من الأبحاث فروع كثيرة وجوانب مهمة في النواحي النظرية والتطبيقية، وهذا ما يبرز لنا الأهمية الكبيرة لهذا البحث، والموضوع الذي يتناوله:
وقد دفع إلى اختيار هذا البحث عدة أسباب:
1- منها الأهمية الكبيرة التي يحتلها.
2- ومنها قلة الأبحاث المتداولة في هذا الموضوع وخصوصاً ما يتعلق بالمنهج السلفي.
3- ومنها أن من تناول هذا الموضوع ربما كان تناوله له من وجهة نظر تختلف عن الوجهة التي ينطلق منها الإخوة المشاركون في هذا المؤتمر.
4- حاجة الخطاب الإسلامي إلى معرفة مفاصل الوسطية وأركانها؛ بغية تنزيلها في الواقع الإسلامي ذي المشارب المختلفة. إلى غير ذلك من الأسباب.
وعنوان هذه الورقة " الوسطية في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية " أتقدم بها إلى مؤتمركم الكريم؛ راجياً أن تكون موافقة لمرادكم، محققة للهدف الذي وُضعت له،وتحتوي على:
تمهيد، وثلاثة مباحث تحت كل مبحث عدد من المطالب، تشمل تحديد المفاهيم، والوسطية بين دلالات النصوص وأقوال العلماء، والوسطية كليات وقواعد، ومعوقات وموانع الوسطية.
أسأل الله تعالى أن ينفع بها، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسئول.
تمهيد في المفاهيم
تعتبر دراسة المفاهيم مفتاحاً لفهم ما يحيط بالعلم من إشكاليات معرفية وموضوعية، وترجع أهميتها ليس لكونها جانباً من جوانب الوقوف على التراكمات المعرفية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى فهم الظواهر وتفسيرها بغية الوقوف على حقائقها بما يساعد على وضع منهجية معرفية قد تعتبر بعد ثبوت صوابها قانوناً وقاعدة ومرجعاً للمتخصصين، ومفهوم الوسطية من المفاهيم التي كانت مسرحاً لتغاير الرؤى والأفكار فلم يسلم من توظيفٍ في دائرة الاستظهار عند بعض من استغله لتحقيق مآربه ومقاصده، لذلك ونحن في سياق التأصيل لهذا المفهوم بحاجة إلى الوقوف على دلالات النصوص الشرعية المتعلقة بهذا المفهوم آخذين بنظر الاعتبار سياقها النصي والموضوعي والتنزيلي، وهذا بلا شك يقتضي النظر في دلالات النصوص الكلية وما تتعلق بها من مقاصد رعاها الشارع وأخذها بالاعتبار في تشريعه.
أولاً: مفهوم الوسطية:
الوسطية ترجع في أصل وضعها اللغوي إلى مادة وسط، وهي دالة على جملة من المعاني تتقارب من حيث دلالتها، ومنها: العدل، والخيار، والتوسط بين الجيد والردئ، وبين القادمة والآخرة، والإصبع الوسطى، والصلاة الوسطى، والوساطة، والإكرام، وواسط وهو لفظ يطلق على مواضع متفرقة من البلاد الإسلامية أشهرها واسط وهي مدينة بالعراق بين البصرة والكوفة .
وأما في الاصطلاح الشرعي فإن الوسط لا يخرج عن مقتضى اللغة، وقد استخدم القرآن لفظ الوسط معبراً فيه عن إحدى خصائص هذه الأمة، وإحدى قواعد منهجيتها، قال تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ، ويمكن القول إن الوسطية اصطلاحاً: " سلوك محمود - مادي أو معنوي - يعصم صاحبه من الانزلاق إلى طرفين مُتقابلين - غالبًا - أو مُتفاوتين، تتجاذبهما رذيلتا الإفراط والتفريط، سواء في ميدان ديني أم دنيوي" .
ثانياً: مفهوم المقاصد:
المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل ( ق ص د ) ومواقعها في كلام العرب متعددة الأغراض وكثيرة المعاني، منها: استقامة الطريق، والسهل، والاعتماد،والأَم، وإتيان الشيء، والتوسط بين الإسراف والتقتير، والاستقامة، والاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض نحو الشيء، ومواصلة الشِعر، ومتوسط الهيئة، والكسر، والعدل، والقسر والقهر، والجوع، والعوسج، والقطعة مما يكسر، والبعير السمين، وتشطير الشِعر، والتهذيب والتنقيح، والعصا، والإصابة، والقرب .
وأما في الاصطلاح فإن هناك إجماعاً عند من كتب في المقاصد على عدم وجود تعريف محدد في كتابات المتقدمين، على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها، وأتوا بعبارات أو مصطلحات تظهر الاهتمام بهذا العلم، ومنها: ( المصلحة، والحكمة، والعلة، والمنفعة، والمفسدة، والغايات، والمرامي، والأسرار، والمعاني، والمراد، والضرر، والأذى .. ) ، وسبب هذا الإعراض عن وضع تعريف محدد للمقاصد من قبل العلماء المتقدمين أن صدر هذه الأمة لم يكونوا يتكلفون ذكر الحدود ولا الإطالة فيها؛ لأن المعاني كانت عندهم واضحة ومتمثلة في أذهانهم وتسيل على ألسنتهم وأقلامهم دون مشقة ، وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى القصد اصطلاحاً هو العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية ) ، حيث رسمها بقوله: " مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها " ، وكشأن من خاصيته السبق في الأمور فإن تعريف ابن عاشور لم يخل من قصور من جهة افتقاده خاصية التعريف المتمثلة في كونه جامعاً للمعرف مانعاً من دخول غيره فيه، حيث أدخل في المقاصد الخصائص العامة للتشريع، كما أن هذا التعريف اقتصر على المقاصد العامة للشريعة وأغفل المقاصد الخاصة، وهو ما استدركه ابن عاشور نفسه حيث ساق لها تعريفاً في كتابه ، ولقد توالت بعده جهود الباحثين في وضع تعريف للمقاصد، وهي تمثل دليلاً على مدى الاهتمام بهذا العلم ومحاولة ضبطه بقواعده تسهيلاً له وإعانة لأهل العلم في تيسير مسالك الاستنباط من خلال ربطها بهذا العلم، ويظهر من خلال استقراء هذه المحاولات أن هناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه للشريعة، وحسبنا في هذا المقام أن نسوق تعريف الدكتور نور الدين الخادمي؛ لأنه نص في تعريفه على تقرير عبودية الله تعالى ـ وهي المقصد الأعظم من الخلق ـ مع اعتبار مصالح الخلق في الدارين، فيقول ـ معرفاً للمقاصد ـ: " المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين " .
ثالثاً: مفهوم القواعد:
القواعد لغة جمع قاعدة، وترجع إلى أصل ( قعد ) من القعود وهو الجلوس، قال الزبيدي: " والقاعدة أصل الأس، والقواعد الأساس، وقواعد البيت أساسه، وقال الزجاج: القواعد أساس البناء التي تعمده، وقولهم: بنى أمره على قاعدة، وقواعد، وقاعدة أمرك واهية، وتركوا مقاعدهم: مراكزهم، وقواعد السحاب: أصولها المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء ... " .
وأما القاعدة في الاصطلاح فقد تعددت عبارات العلماء في تعريفها، فعرَّفها الجرجاني بأنها: " قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها " ، وعرَّفها الكفوي بأنها: " قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها، واستخراجها تفريعاً " ، وذكر التهانوي بأن القاعدة تطلق على معان ترادف الأصل، والقانون، والمسألة، والضابط، والمقصد . وهي عبارات تنطلق على القاعدة الفقهية والأصولية، أما القاعدة المقاصدية التي نحن بصدد بحثها فقد عرَّفها بعض الباحثين استنطاقاً من كلام الشاطبي في موافقاته بقوله: " ما يعبر به عن معنى عام، مستفاد من أدلة الشريعة المختلفة، اتجهت إرادة الشارع إلى إقامته من خلال ما بني عليه من أحكام " ، وظاهر أن تعريفه هذا قصد به كليات المقاصد وتفريعاته بدليل أنه مثَّل على القاعدة المقاصدية ببعض القواعد الدالة على مراعاته هذه الكليات، ومنها : القواعد المتعلقة برفع الحرج في الشريعة كقاعدة: ( الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه )، وقاعدة: ( قصد الشارع التكليف لا لذاته وإنما لما يترتب عليه من مصالح تعود على المكلف )، وقاعدة: ( المشقة غير المحتملة تفضي إلى رفع التكليف على الجملة )، والقواعد المتعلقة بالمصالح والمفاسد كقاعدة: ( وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً )، وقاعدة: ( المصالح والمفاسد راجعة إلى خطاب الشارع )، ومن المعلوم أن اليسر ورفع الحرج ومراعاة المصالح وجلبها ودرء المفاسد ودفعها من أعظم مقاصد الشريعة، والقراءة المتأنية تظهر لنا أن هذه القواعد تدور في إطار الكليات المقاصدية، الأمر الذي ندرك معه احتضان المقاصد لها، وبهذا يمكن معرفة العلاقة التداخلية بين المفهومين ( الكليات والمقاصد ).
المبحث الأول
الوسطية بين دلالات النصوص وأقوال العلماء
ليس غريباً ونحن نؤصل لمفهوم الوسطية أن نقف على مرجعه في نصوص الشريعة؛ كونها الأصل الذي يستند عليه في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية، وهذا التأصيل يستدعي استقراء النصوص القرآنية والنبوية للوقوف على استعمالاتها لهذا المفهوم من حيث الألفاظ والمعاني، وقد جاء الحديث عنه في إطار التصريح تارة وفي إطار التلميح تارة أخرى، والمنهج العلمي الرصين يستلزم تتبع المواضع المتعلقة بهذا المفهوم من أجل الخروج بمعنى كلي يشكل إطاراً مرجعياً لغيره من المفاهيم ذات العلاقة، مما يجعلنا منقادين ـ ونحن في سياق هذا التأصيل ـ لمقاصد القرآن والسنة النبوية؛ كونهما حاكِمَيْن على كل نص سواهما، وبناء على ذلك فإننا بحاجة إلى معرفة نظر الشارع لهذا المفهوم من خلال استقراء نصوصه، وكذلك معرفة نظر العلماء من المحققين في تأصيلهم لهذا المفهوم في ضوء فهمهم لنصوص الشرع، ونختم بنماذج تاريخية لبعض الدعوات التي اتسمت بالوسطية في منهجيتها ودعوتها.
المطلب الأول: الوسطية في ضوء نصوص الشريعة:
لقد كان لمصطلح الوسطية في نصوص الشريعة مجال رحب لمن أراد الوقوف على أصله ومضمونه، ولا شك أن وراء ذلك مقصداً وغاية، فالشارع الحكيم أراد من عباده أن يتصفوا بهذا الوصف ويكون لهم منهجاً ومسلكاً، ولذلك حري بنا في سياق موضوعنا هذا أن نقف على تلكم المواضع التي أشارت إلى الوسطية تصريحاً وتلميحاً في كتاب الله تعالى وسنة النبي r.
المقصد الأول: الوسطية في ضوء النصوص القرآنية:
وردت كلمة وسط في القرآن الكريم في إطار التصريح في خمسة مواضع:
1- قوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ، وقد جاء تفسير هذه الآية عن رسول الله r كما روى ذلك البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري t: قال: قال رسول الله r: " يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ: ) وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (. فذلك قول الله جل ذكره: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (، والوسط العدل " ، وهو أحد المعاني المرادة ولكن لا يمنع من أن يكون هناك معانٍ أخرى.
قال الطبري في سياق تفسير هذه الآية: " وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي بـمعنى: الـجزء الذي هو بـين الطرفـين مثل ( وسط الدار ) مـحرّك الوسط مثقّله، غير جائز فـي سينه التـخفـيف. وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم فـي الدين، فلا هم أهل غلوّ فـيه غلوّ النصارى الذين غلوا بـالترهب، وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه، ولا هم أهل تقصير فـيه، تقصير الـيهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبـياءهم، وكذبوا علـى ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه. فوصفهم الله بذلك إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها " .
وقد جرى على منواله القرطبي ، وابن كثير ، والسعدي ، وابن عاشور ، ومن المعاصرين من جعل الوسطية التي قصدها الشارع دائرة مع عنصرين لا بد من توافرهما: الخيرية ـ البينية ، فالجمع بين هذين العنصرين يثمر لنا الوسطية التي مدحها الله تعالى .
2ـ قوله تعالى: ) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( ، قال الخلوتي الحنفي: " والصلاة الوسطى أي المتوسطة بينها على أن تكون الوسطى صفة مشبهة، أو الفضلى منها على أن تكون أفعل تفضيل تأنيث الأوسط وأوسط الشيء خيره وأعدله وهي صلاة العصر؛ لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار، ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً ) وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار " ، وقد نقل القول بكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ابن الجوزي في تفسيره ونسبه إلى جماهير أهل العلم، وذكر منهم علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبا أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبا هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبا سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزر بن حبيش، وقتادة، وأبا حنيفة، ومقاتل في آخرين .
3ـ قوله تعالى: ) فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ( ، والمراد بالأوسط هنا على الراجح المنزلة بين منزلتين، والنصف بين طرفين، وإن كان أصل اللفظ دائراً مع الأعلى والخيار والعدل، وقد أجمع العلماء على أن الوسط بمعنى الخيار هاهنا متروك ، على الرغم من كون سياق الآية قد جعل معنى الأوسط مغايراً لمعناها اللغوي، فإنه من جهة أخرى يؤكد ما تقدم من كون اللفظ في أصله اللغوي يدور مع العدل والخيار.
4ـ قوله تعالى: ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ( ، والأوسط هنا بمعنى الأحسن والأرجح عقلاً ورأياً، أو الأوسط سناً، أو الأعدل والأفضل .
5ـ قوله تعالى: ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ( ، والمعنى توسط جموع الأعداء .
فهذه الآيات جاء فيها لفظ الوسط صريحاً، وهي كما ترى لا تخرج عن المعنى اللغوي لأصل الكلمة، وهو معنى توافق عليه الشرع كذلك كما هو مقتضى السياقات القرآنية المتعلقة باللفظ المعني، إلا أن هناك نصوصاً كثيرة جاء فيها معنى الوسطية في إطار ألفاظ أخرى؛ لتدل على هذا المعنى وفق منهجية قرآنية واضحة البرهان ثابتة البنيان، والباحث لا يسعه أن يقف عند هذه النصوص بأجمعها؛ لكونها كثيرة، إلا أنه سيقف مع بعضها موضحاً ومظهراً مقاصدها ومعانيها، وسيحيل إلى غيرها من خلال التنويه عمن فصل الحديث عنها فيما رقم ورسم.
6ـ قوله تعالى: ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( ، وجه دلالة الآية أنه سبحانه وصف الصراط المستقيم بأمرين: الأول أنه مستقيم، والثاني أنه غير صراط المغضوب عليهم وهم اليهود، وغير صراط النصارى، وهم أهل الغلو في الرهبانية والتعبد، حتى خرجوا عن حدود الشرع، ليس فقط في العبادة بل حتى في الاعتقاد، فإذا كان الصراط المستقيم غير صراط اليهود والنصارى، وكان صراطهم صراط غلو في الدين، دل ذلك على أن الصراط المستقيم الذي شرعه الله عز وجل صراط لا غلو فيه، فهو بين طرفين إفراط وتفريط، وهذا هو معنى الوسطية التي هي منهاج الدين الإسلامي .
7ـ والمعنى نفسه يظهر جلياً كذلك في قوله تعالى: ) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( .
8ـ قوله تعالى: ) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ( ، قال ابن كثير: " أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين " .
وهذه الآيات بعد بيانها يظهر بجلاء أنها تصب في إطار المنهج الوسطي الذي دل عليه القرآن الكريم، مع العلم أن الآية المركزية التي يدور معها مفهوم الوسطية هي قوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ، دون أن يغفل الباحث التنبيه على أن القرآن الكريم كله يدعو إلى الوسطية والعدل والإنصاف وما يتعلق بذلك من مفاهيم واصطلاحات، بدليل قوله تعالى: ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( ، فلفظ الأقوم هنا يشير إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم؛ لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكاً إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضاً أو تحذيراً، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه ؛ ولذلك جاء وصف الدين والشريعة والهدى بهذه اللفظ في اشتقاقات مختلفة ترجع إلى أصل واحد كما هو الحال بألفاظ: القيمة، أقوم، قيماً .
المقصد الثاني: الوسطية في ضوء نصوص السنة النبوية:
إن المتتبع لنصوص السنة النبوية يظهر له أن السنة أتت بلفظ الوسط في إطاره الصريح، نبهت عليه كذلك في سياق ألفاظ أخرى لا تخرج عن مقتضى معناه ومقصده وإن اختلفت معه في اللفظ، ولذلك سيقف الباحث على بعض هذه النصوص؛ من أجل بيان مقاصد السنة حول هذا الموضوع.
1ـ فمن الأحاديث التي جاء فيها لفظ الوسط صريحاً قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة " ، وقوله r: " إذا وضع الطعام، فخذوا من حافته، وذروا وسطه، فإن البركة تنزل في وسطه" ، فهذان حديثان جاء ذكر الوسط فيهما صريحاً ومعناه ظاهر وإن اختلف سياقه في الحديثين، فالمراد بالأوسط في الحديث الأول الأعدل والأفضل ، فيكون موافقاً لقوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ، أما الحديث الثاني فعلته ظاهرة المعنى حيث جاء التصريح بكون البركة تنزل في وسطه أو في ذروته وأعلاه.
2ـ قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه" ، وقوله r: " إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا " ، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، ولا شك أن هذين الحديثين فيهما عَلَم من أعلام النبوة كما أشار إلى ذلك ابن المنير، فالشواهد الحسية أظهرت أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته .
3ـ حديث أنس بن مالك t قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي r، يسألون عن عبادة النبي r، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي r؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله r فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) " . قال ابن بطال في شرح هذا الحديث: " في هذا الحديث من الفقه أن النكاح من سنن الإسلام، وأنه لا رهبانية في شريعتنا، وأن من ترك النكاح رغبة عن سنة محمد عليه السلام فهو مذموم مبتدع ... وفيه الاقتداء بالأئمة في العبادة، والبحث عن أحوالهم وسيرهم في الليل والنهار، وأنه لا يجب أن يتعدى طرق الأئمة الذي وضعهم الله ليقتدى بهم في الدين والعبادة، وأنه من أراد الزيادة على سيرهم فهو مفسد، فإن الأخذ بالتوسط والقصد في العبادة أولى حتى لا يعجز عن شيء منها، ولا ينقطع دونها" .
المطلب الثاني: قراءة تاريخية في بعض الدعوات الوسطية:
لا يمكننا ونحن بصدد استقراء تاريخي لبعض الدعوات التي قامت منهجيتها على الوسطية والاستقامة، إلا أن نقف على مرجع هذه الدعوات من حيث منهجيتها ومعتقدها ومسلكها وطريقتها.
والأصل الذي تستند عليه هذه الدعوات قائم على بعض الأحاديث التي تمثل منهاج النبوة في الدعوة والحق والهدى، يجمعها حديث واحد هو حديث الافتراق، وهذا الحديث مشهور عند العلماء من حيث حفظه وتدوينه وجمعه وشرحه والتعليق عليه، وهو مروي من طرق متعددة وألفاظ متقاربة فيها زيادات تمثل الفيصل في أوصاف الفرقة الناجية التي تمثل منهج الوسط والاعتدال، ولا يسع الباحث الوقوف على طرق هذا الحديث والبحث فيه، فسياق هذا المطلب يحكمنا بأن نوجز القول ولا نفصل إلا بالقدر الذي يصب في مصلحة البحث، وبناء على ذلك نقرر أن حديث الافتراق رواه جمع من أصحاب النبي r والكل متفق على أصل متنه إلا أن هناك زيادات مؤثرة تظهر أوصاف الفرقة الناجية، ولذلك سنقتصر في الأصل على رواية أبي هريرة ثم نذكر الزيادات من الروايات الأخرى، وحديث أبي هريرة أخرجه جمع من الأئمة، فقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وغيرهم، ونصه أن أبا هريرة t قال: قال رسول الله r: " افترقت اليهود على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" ، وجاء في رواية معاوية وعوف بن مالك: " كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" ، وجاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: " ما أنا عليه وأصحابي" .
ولا شك أن مقتضى هذا الحديث برواياته المتعددة ينطبق على الجيل الأول الذي تربي في أحضان النبوة وصنع على عينها، وزكاه القرآن والسنة النبوية؛ ليكون منهجهم مسلكاً وطريقاً يقتدي به من خلفهم، كما دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية، منها قوله تعالى: ) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ، وقوله تعالى: ) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " ، ووجه الارتباط بين هذه النصوص في القرآن والسنة، وبين وصف الجيل الأول من الصحابة وأتباعهم بمنهج الوسطية والاعتدال أن الله عز وجل وصف هذه الأمة، بوصفين يستلزم أحدهما الآخر وجوداً وعدماً، الأول جاء في قوله تعالى: ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( ، والثاني جاء في قوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( ، فالخيرية تقتضي أن تكون الأمة متصفة بصفة الوسطية، وهو الذي يدل عليه وصف الجعل في الآية الثانية، ولذلك حين ننظر في حال أصحاب النبي r، فنجدهم قد حققوا هذا الوصف، فتحققت بهم أكمل صورة يمكن أن يحققها البشر، واستطاعت أن تحفظ للإسلام قوته ومكانته، بل وأن تزيد من توسعه وانتشاره، فأضحوا أمة حاكمة مسيطرة بهديها وقرآنها، فتمثلوه منهجاً وواقعاً ، وسار الأتباع على نهجهم إلا أن الملاحظ أن خيرية الصحابة كانت في إطار جمعي، أما خيرية التابعين وأتباعهم كانت على سبيل الانفراد؛ كون كثير من البدع والمحدثات ظهرت في جيل التابعين وتابعيهم، ووصف الجيل بأكمله بالخيرية يستلزم مدح أهل البدع وما أحدثه، وهذا لا يصح، وقد جاءت آثار كثيرة تصب في هذا المعنى، ومنها ما قاله أبو حاتم الرازي: " العلم عندنا ما كان عن الله تعالى، من كتاب ناطق، ناسخ غير منسوخ، وما صحت الأخبار عن رسول الله r مما لا معارض له، وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج عن اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين، فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل: أيوب السختياني، وحماد بن زيد، وسفيان، ومالك بن أنس، والأوزاعي، والحسن بن صالح، ثم من بعد، ما لم يوجد عن أمثالهم، فعن مثل: عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن آدم، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم: محمد بن إدريس الشافعي، ويزيد بن هارون، والحميدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وأبي عبيد: القاسم بن سلام" .
وإذا انتقلنا إلى مراحل تاريخية أخرى نقف على نماذج كثيرة جداً من الدعوات التي اتصفت بصفة الوسطية ومنهج الاعتدال، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى أن هناك من جمع جهود العلماء في الدفاع عن هدي النبوة والصحابة دعوة ومنهجاً، ونحيل في هذا الباب إلى كتاب الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي ( المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية )، حيث تتبع فيه هذه الجهود العلمية التي تمثل في حقيقتها منهجاً دعوياً وعلمياً يهتدي به من خلفهم، إلا أننا في المقابل لا ينبغي أن نغفل الحديث عن دعوات كان لها الأثر البالغ في الدفاع عن الحق وتبليغه للناس، وتمثل منهج السلف عقيدة ومسلكاً، هي دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن السابع والثامن الهجريين، ودعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في القرن الثالث عشر الهجري، ودعوة الأئمة المجتهدين أهل السنة في اليمن، وحري بنا أن نقف قليلاً مع هذه الدعوات كونها تشكل مفصلاً رئيساً من مفاصل دعوة أهل السنة والجماعة وكانت بحق دعوات وسطية لا إفراط فيها ولا تفريط، إلا أن الفارق بين هذه الدعوات أن دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية ومجتهدي اليمن يغلب عليها الجانب العلمي، بينما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يغلب عليها الجانب الحركي.
أولاً: دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية:
كان ظهور ابن تيمية في عصرٍ ساد فيه ركام المنهج الفلسفي والتأويل الكلامي والشطح الصوفي حتى غلب على ظن كثير من المسلمين أنها تمثل دين الإسلام وهديه، وهذا مرجعه بطبيعة الحال الجهل بمنهاج النبوة وهدي السلف الأول، وبحكم نشأة شيخ الإسلام العلمية المستقيمة فقد وقف على حال الأمة في عصره حيث انتشرت البدع والمحدثات ومناهج أهل الضلال، ومسالك أهل التقليد وتحكيم آراء الرجال، ولذلك اتخذ لنفسه منهجاً تجديدياً يُحيي من خلاله منهاج النبوة في الدعوة والاستقامة على الحق، ولقد أوتي ـ رحمه الله ـ قوة في الحوار والجدال مع المخالفين بسبب تعمقه في تتبع مناهجهم، والوقوف على انحرافاتهم العقدية والمنهجية، واستطاع من خلال ما ألَّفه ووضعه من مصنفات وفتاوى ورسائل في تقرير منهج السلف أن يعيد الهيبة والمكانة لهذا المنهج، ولقد بذل جهوداً عظيمة في إعادة الاعتبار لنصوص الوحي، حيث وجد فيها ضالته وعلم علم اليقين أن وحدة الأمة إنما تكون باتباع الكتاب والسنة وهما يمثلان منهج النبوة الذي حث عليه النبي r وأصحابه y، جاعلاً في المقابل العقل تابعاً لمقصد النص، ومظهراً بجلاء أن صحيح المنقول لا يخالف صريح المعقول، وبذلك استطاع أن يقضي على ذلك النزاع الذي بقي دهوراً ما بين العقل والنقل، وأثبت أن العقل الفطري لا يمكن أن يخالف الوحي الإلهي، أما العقل الفلسفي فليس عنده القدرة على فهم نصوص الوحي بعد أن اجتالته نظريات الفلاسفة والمتكلمين، وقليل من يسلم منها وإن رام التخلص .
لقد كان لمفهوم الوسطية عند شيخ الإسلام ابن تيمية مجال واسع، ظهر ذلك من خلال ما رقمه بقلمه من تأصيلات وفتاوى في إطار تصحيح المفاهيم، يقول ـ رحمه الله ـ مقرراً قاعدة الوسطية: "دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه " ، وقال تحت قاعدة: ( الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور): " الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور، في أغلب الناس، مثل تقابلهم في بعض الأفعال، يتخذها بعضهم ديناً واجباً، أو مستحباً، أو مأموراً به في الجملة. وبعضهم يعتقدها حراماً مكروهاً، أو محرماً، أو منهياً عنه في الجملة " . وبهذا التأصيل المنضبط والتطبيق المقيد بالمنهج الوسط المستقيم أصبح ابن تيمية إماماً ومرجعاً لكثير من طوائف الأمة حتى من لم يوافقه في كثير من تقريراته، وأصبحت مؤلفاته معيناً عذباً سائغاً لعلماء ودعاة الصحوة المباركة.
ثانياً: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
تشكل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحركته الإصلاحية التجديدية مفصلاً تاريخياً مهماً في تاريخ دعوات الموحدين، وكانت شخصية الشيخ مثار جدل عند الكثير، ودارت حولها كثير من النقاشات العلمية والفكرية، فقد أثيرت حوله كثير من الشبهات التي تشوه صورته عند كثير من الناس، ولا شك أن المنصف يدرك بعد الوقوف على البينات والبراهين أن الإمام ـ رحمه الله ـ كان داعية إلى الحق قاصداً تبليغ التوحيد، وتجريد العقيدة مما شابها من أدران الشرك والوثنية، ولقد كان ظهوره " في عصر استحكمت فيه غربة الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع والخرافات، وعبادة الأنبياء والصالحين والأشجار والأحجار، وقل من يصدع بالحق ويشرح للناس حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ويحذرهم من أنواع الشرك المنافية لدين الإسلام، فقام هذا الإمام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بالدعوة إلى الله سبحانه بقلمه ولسانه وأوضح للناس حقيقة ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام وما ألصقه به أهل الجهل والضلال وهو برئ منه من الشرك والبدع والخرافات، وأوذي في ذلك أذى كثيراً من الجهال وأدعياء العلم ومن علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.. فصبر رحمه الله على ذلك واستمر في الدعوة والبيان وإيضاح الحق بأنواع الأدلة من الكتاب والسنة وشرح حال سلف الأمة.. " .وبذلك ثبتت دعوته ومنهجه أمام أعاصير الباطل التي ووجهت بها، وانتشرت في أصقاع الأرض ودان بها ملايين البشر، وحملها آلاف العلماء والدعاة وطلبة العلم، وهي اليوم أعتى قلعة يتحصن بها الحق وأهله رغم ما يشنه أعداؤها من حروب مدمرة ضدها، ولكن صدق الله تعالى: ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ....) الآية.
ثالثاً: دعوة الأئمة المجتهدين في اليمن:
وأعني بها الدعوة السلفية التي حملها مجددو ومجتهدواليمن الكبار، الأئمة محمد بن إبراهيم الوزير ومحمد بن إسماعيل الأمير ومحمد بن علي الشوكاني ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم ممن أتى بعدهم من علماء اليمن وغيرها، هذه الدعوة تميزت بالوسطية والاعتدال والاستقامة على منهاج الصحابة رضي الله عنهم في جميع جوانبها العلمية والعملية وفي جوانب العقيدة والفقه والأصول، وهي سابقة على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعاصرة لها في نفس الوقت وموافقة لها في الأصل والمنهج العلمي، وإن اختلفت بعض الشيء في الأسلوب العملي والحركي حيث لم تحظَ بسلطة تقوم بها كما حصل لدعوة الشيخ محمد رحم الله الجميع، غير أن تراثها العلمي أصبح من أعظم الزاد الذي يتزود به دعاة السنة وعلماؤهم وأصبحت مؤلفات أئمتها مناهج علمية تُدرَّس في جامعات ومدارس ومراكز أهل السنة في مشارق الأرض ومغاربها، وفيها تتجلى الوسطية والاعتدال فهماً وتطبيقاً، غير أن نصيب هذه المدرسة من العناية أقل بكثير من نصيب دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وذلك بمقدار ما كان حظها من النقد والأذى أقل مما تواجه به الدعوة الوهابية.
والدارس لهذه الدعوات الثلاث وغيرها من دعوات أهل السنة أتباع السلف الصالح سيجد أنها كبيرة الشبه عظيمة الصلة متشابكة الأواصر، وأنها القاعدة الفكرية والنظرية للصحوة المباركة بفصائلها السنية السلفية بل وغير السلفية.
المطلب الثالث:قراءة في الدعوات الوسطية في واقعنا المعاصر:
شهد النصف الثاني من القرن الماضي صحوة إسلامية مباركة على جميع الأصعدة الفكرية والمنهجية، وكان للواقع المرير الذي عاشته الأمة بسبب التخلف والجهل والاحتلال، ودعوات التغريب والحداثة أثر في محاولة التجديد عند كثير من مفكري الأمة ونخبها، وكانت الوجهة متغايرة ومختلفة، فبعضهم اتجه نحو الغرب أو الشرق يستلهم تجاربه في النهضة، فآلت الأمور إلى دعوات إلحادية علمانية، جعلت المسلم بعيداً عن دينه ودعوته لم يبق له إلا الاسم، كما هو حال كثير ممن عاش في دول الغرب ودرس فيها، فعاد ممسوخاً ممثلاً لعقلية الغرب ومنهجه ظاناً أن الحل الأمثل يكون في تقليد الغرب في حضارته، وهذا لا شك كان له أثره في دفع كثير من علماء الأمة الغيورين لمحاولة بعث تعاليم الإسلام من جديد وإحياء دعوته من خلال تبني منهجه ليكون مسلكاً في الحياة، وبالفعل قامت دعوات غرضها إحياء الإسلام عقيدة وشريعة في نفوس الناس، والخروج بهم من ذلكم الحال الذي جعلهم في دائرة الاستتباع للغرب، إلا أن هذه الدعوات كانت متفاوتة في منهجيتها، ومن المهم في سياق بحثنا أن ننبه على تلكم الدعوات التي اتخذت فهم السلف عقيدة ومنهجاً، وجعلت الوسطية لها دعوة وطريقاً، وكان لعلماء الدعوة النجدية أثر بالغ في تصحيح التوحيد وتهذيب العقيدة مما شابها من شوائب الشرك والمحدثات، ولم يكن أثرهم قاصراً على الجزيرة العربية بل كان لهم الأثر في مواطن أخرى، ونذكر على سبيل المثال بعضاً من أعلام الدعوة السلفية في العالم الإسلامي، ففي مصر كان هناك الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي، وفي الشام كان الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، والشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ محمد بهجت البيطار وفي العراق الشيخ محمود شكري الآلوسي، وعدد من أولاده وأحفاده وغيرهم، وفي اليمن محمد بن سالم البيحاني ومحمد بن علي بافضل وعدد غير قليل في صنعاء وما حولها من أتباع مدرسة اليمن السنية السلفية وممن تأثروا بالدعوة النجدية، وهكذا في بقية أقطار العالم الإسلامي.
ثم جاء عصر الدعوة المعاصرة بجماعاتها وجمعياتها ومنظماتها الدعوية، وكثرت مسمياتها واختلفت مناهجها وكلها تدعي السلفية والسنية وأتباع منهج الصحابة y، ولكن كثيراً من تلك الدعوات قد شابت مناهجها بأصول وقواعد ومفردات مأخوذة عن غير المنهج السلفي، أو أنها قد تركت وتنكبت لأصول وقواعد ومفردات مهمة من صميم ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، وبذلك وقعت في شيء من الإفراط أو التفريط ومن الغلو والجفاء أحياناً في أحد الطرفين وأحياناً قد تجمع الطرفين جميعاً، بحيث تقع في غلو في جانب وفي جفاء وتفريط في جانب آخر.
وعلى الرغم من ذلك بقيت جماعات أخرى على ذلك المنهج الأصيل والصراط المستقيم سالمة من الانحراف عنه والوقوع فيما يناقضه، لعل بيننا من يمثل تلك الجماعات أو أكثرها وقد جآؤوا لحضور هذا المؤتمر لتأصيل الوسطية وتحديدها والتعرف على ملامحها ووضع الضمانات لاستمرارها واستمرار السير عليها والتحذير من خوارمها ووسائل الخروج عنها.
المبحث الثاني
الوسطية: كليات وقواعد
تمثل الوسطية مفتاحاً للصراط المستقيم؛ لأن الصراط المستقيم سبيل بين سبيلين منحرفين، فكان مفتاح الاستقامة معرفة حقيقة الوسطية التي يسلم العبد بمعرفتها من الانحراف عن الصراط السوي، ويدخل إذا تحقق بها في صراط الأمة الوسط والفرقة الوسط، فمعرفة الوسطية هي معرفة الصراط المستقيم الذي أمر العبد أن يسأل الله إياه كل يوم بضع عشرة مرة في ركعات الفريضة، وهو أوجب دعاء وأنفعه وأعظمه، وكل ما يتعلق بالصراط المستقيم وضرورة الدعاء به يصدق على الوسطية، وتعتبر صفة من أعظم صفاته، من هنا كانت الوسطية من أعظم خصائص المنهج السلفي الذي يتمسك بأصول السلف وفهمهم للكتاب والسنة، وهذا قيد معتبر في التعامل مع نصوص الشرع، وكون الوسطية من خصائص هذا المنهج أن أمة الإسلام هي الأمة الوسط كما صرح بذلك الكتاب ، وقد نبهنا فيما مضى إلى أن السلف هم خير هذه الأمة منهجاً وطريقة، لذلك من رام الوسطية والاعتدال فليكن على منهج السلف في العقيدة والعمل، وبناء على ذلك وبعد وضوح المفهوم كان لزاماً على الباحث أن يبين قواعد وكليات الوسطية التي تشكل دلالاتها الرئيسة، وقد كان للعلماء في هذا السياق جهود كبيرة في تحديد هذه القواعد والكليات فنصوا عليها، وإن لم تكن في إطارها الكلي وإنما بثوها في ثنايا مؤلفاتهم ومصنفاتهم، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية عناية خاصة في التنبيه عليها، نَثَرها في كتبه ومصنفاته إما من خلال قواعد يؤكد عليها، أو في ثنايا مضامين كلامه، والواقع أن جل من صنف في هذا الباب كان عالة عليه في ذلك، وإنما أظهر ذلك رحمه الله من خلال بحثه العميق في نصوص الشرع ومحاولته استنطاقها وجعلها مرجعاً في كل قاعدة وكلية من كليات الدين، وليس ذلك غريباً عليه، فإن الذي يطلع على كلامه عن قرب يدرك عظم اهتمامه بنصوص الوحي ومقاصدها الكلية، فيمكننا أن نقرر في هذا السياق أن شيخ الإسلام أعاد الاعتبار من خلال ما رسمه إلى نصوص الوحي والانطلاق منها في إطار منهجية الاتباع والاقتداء، وعوداً إلى موضوع الوسطية، فإن هناك جملة من القواعد والكليات التي نطق بها مفهوم الوسطية، سنجعلها في ثنايا هذا المبحث.
المطلب الأول: الوسطية في أبواب الاعتقاد:
لقد كان من مقاصد دين الإسلام تصحيح العقيدة وتجريد التوحيد لله عز وجل، والناظر في نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم يدرك جلياً عظم هذا المقصد، ولذلك تجد العلماء يؤكدون عليه من خلال تقريراتهم، آخذين بعين الاعتبار مقاصد الوحي الإلهي، ومن الآيات المركزية في هذا الباب قوله تعالى: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( ، وقوله: ) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( وهناك من الآيات الأخر التي تصب في نفس القصد، ولا ننسى أن ننبه على أن الآيات جاءت لتصحيح ذلكم الواقع الذي كان قبل البعثة حيث كان الشرك والانحراف متغلغلاً في كل جوانب الحياة، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله r قال ذات يوم في خطبته: " إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبداً، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء. تقرؤه نائماً ويقظان..." ، فهذا الحديث ينبيك عن حال البسيطة قبل مبعث النبي r، ولذلك لا غرابة بعد ذلك أن نجد القرآن المكي يخصص للتوحيد مساحة كبيرة جداً، وتمثلها عليه الصلاة والسلام في سيرته ودعوته فبقي يدعو إلى التوحيد كمقصد أكبر في العهد المكي ثلاثة عشر عاماً، يقول الشاطبي مقرراً هذا المقصد العظيم: " المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً " .
إلا أنه وبعد انقضاء خير القرون اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط وبين التفريط والتقصير، وقد سلم الله من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط، وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة y .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذه الفرقة الناجية: أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون. ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا. بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( .ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ( ، وبقوله: ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ( ، ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: ) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ( ، قال عدي بن حاتم t: قلت: يا رسول الله، ما عبدوهم؟ قال:"ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم". والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لايأمر غيره. وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: ) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( ... وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق. فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله r، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل. وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: ) لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ( .فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات. ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أُكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي r وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية. فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي r ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وهم أيضًا في أصحاب رسول الله r ورضي عنهم وسط بين الغالية، الذين يغالون في علي t فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي t وإمامته. وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله r، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان " .
المطلب الثاني: الوسطية في أبواب العلم والعمل:
مقرر عند علماء الأصول أن العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً ومَدَح الله ورسوله أهلَه على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يدع صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل على قوانينه طوعاً أو كرهاً ، وهذه القاعدة دلت عليها كثير من النصوص الشرعية والآثار السلفية، من ذلك قوله تعالى: ) أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( ، وقوله: ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( ، وقوله: ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( ، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف ما يراعي هذه القاعدة، فمن ذلك ما قاله الحسن: " الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل "، وقال علي t: " يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله " ، وما سواها كثير، ومن تلكم القواعد كذلك أن كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل. أما أن العمل المناقض باطل، فظاهر، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة، وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، بل يمكن القول إن العمل المخالف للشرع في نفسه مفسدة؛ لأنه مخالف أولاً، ولأنه منهي عنه ثانياً، ونهي الشارع إنما توجه لدفع المفاسد ودرءها، وهذا الذي عمل عملاً مخالفاً لقصد الشارع وأمره قد قارف مفسدة ظاهرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مقرراً هذه القاعدة: " والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي، فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما، وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته.
وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي؛ فإن هذا فيه باطل كثير وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة، والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء منحرفون إلى النصرانية الباطلة؛ فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول r فيبقون في فساد من جهة العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء. وتقدح كل طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول، والرسول ليس ما جاء به موافقاً لما قال هؤلاء ولا هؤلاء: ) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ، وما كان رسول الله r ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف، بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة، وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولاتزكية للنفس، وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده يحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث، وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم، لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول، ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمداً r إن لم يعرف ذلك من جهته، وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته، ولا يحصل التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى: ) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( " .
المطلب الثالث: الوسطية في الحكم على الرجال ونقد المخالف:
هذا المطلب يكاد يكون من أظهر المطالب المتعلقة بمفهوم الوسطية؛ لكون الحاجة ماسة إليه في واقعنا المعاصر، فقد اختلفت الآراء وتغايرت النفوس في الحكم على المخالف، وظهر الإفراط والتفريط، وتلاعبت الأهواء ورغبات النفوس بأصحابها في مواطن كان ينبغي فيها التغافر وتجاوز الهنات، ولعل ما أصاب الدعوة الإسلامية قبل سنوات من تهارج وفوضى في موضوعات الخلاف أثر تأثيراً كبيراً على مخرجاتها، فأقعدها وعطلها عن تحقيق كثير من مقاصدها، وكان يسع أطراف الخلاف أن يرجعوا فيه إلى أهله ممن أمر الله عز وجل ورسوله r بالرجوع إليهم، وقبل ذلك كان يلزمهم الوقوف على تلكم النصوص الظاهرة التي تؤكد على العدل تارة والإنصاف تارة أخرى دون أن تغفل نصوص أخرى دالة على منهجية الموازنة، فهي منهجية قرآنية أصيلة، وعند الوقوف على مناهج العلماء من المتقدمين والمتأخرين يدرك الباحث عظم إنصافهم وعدلهم مع المخالفين لهم في الأصول، فضلاً عن الفروع، فما بالك بموقفهم ممن يخالفهم في الفروع التي يسع فيها الخلاف، ويكون دائراً بين الراجح والمرجوح والكل منتسب إلى منهج أهل السنة والجماعة ودعوة السلف، فما أحوجنا إلى فقه الخلاف ومعرفة قواعده، ولاشك أن البحث في مفهوم الوسطية يدفعنا دفعاً إلى بيان تلكم القواعد ودراسة فقه الخلاف وإن كان على سبيل الإجمال لا التفصيل فلهذا الأخير موضع آخر. ولا ريب أن الدعاة في أشد الحاجة إلى معرفة المنهج النقدي عند أهل السنة؛ وذلك لأنهم أمام النقد والتصحيح والمراجعة للسلبيات والانحرافات ثلاثة أصناف: الأول: فريق غلبت عليه المسامحة، والتنازلات عن التصحيح لقضايا مهمة، لا يمكن أن يصلح حال المسلمين إلا بإصلاحها، وأخذ في التنازل عن طلب إصلاحها، بل وانقطع عن ذلك، وأخذ ينفر ممن يريد التصحيح، وأصبح همه التنازل حتى عن مميزاته التي كان يتميز بها، وكسب أصحاب المخالفات عن طريق التنازلات، وليس بعجيب أن ينفر هذا الفريق من النقد والتصحيح. الثاني: فريق مقابل لا يتسامح في شيء، ويتناسى أن أصحاب رسول الله r قد وقع بينهم خلاف في بعض الأمور مع محافظتهم على صحة الاعتقاد، ولكن هذا الفريق لا يريد أن يقع بين الدعاة تفاوت في مسائل الاجتهاد، وهو بلا شك يطلب المستحيل. والثالث: وسط بين الفريقين لا يتسامح في تغيير منهج الاعتقاد، ويحمل الناس على الاعتقاد الصحيح عن طريق التربية والتعليم، وهدفه تحقيق صحة الاعتقاد على ما كان عليه النبي r، وفي الوقت نفسه يقر بوقوع الخلاف في مسائل الاجتهاد، ويحاول تصحيحها بغير شطط، ولا بأس باستمرار الخلاف فيها مع استمرار طلب الصواب حسب الإمكان والمناصحة للمخالف، ولا يؤثر بقاء مسائل الخلاف في مسيرة الدعوة، وفي بناء المجتمع الإسلامي .
وبناء على ذلك لا بد من القول تقريراً إنه ليس كل خلاف يعد مذموماً، فهناك خلاف أملاه الهوى قد يكون وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه. وهذا النوع مذموم بكل أشكاله، ومختلف صوره؛ لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطية الشيطان إلى الانحراف والضلال وقد يفضي بصاحبه إلى الكفر، قال تعالى: ) أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ( ، وبالهوى جانَبَ العدل من جانَبَهُ من الظالمين، قال تعالى: ) فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ... الخ ما يتعلق بآثار الهوى وثماره، وهناك خلاف أملاه الحق ودفع إليه العلم، واقتضاه العقل وفرضه الإيمان، كخلاف أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق، وخلاف أهل السنة لأهل البدعة والحدث في الدين، فهذا النوع من الخلاف لا يعد مذموماً بل يعتبر محموداً، وهناك خلاف يتردد بين المدح والذم، ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعض بمرجحات وأسباب، وهذا النوع من الخلاف يكون متردداً بين الراجح والمرجوح، والخطأ والصواب، إلا أنه قد يعتبر مزلة أقدام، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن، والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلا تحول إلى تنازع وشقاق وفشل، وهبط المتخلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرنه، ولا يخفى أن أصل هذا الخلاف يعد سائغاً، وهو الذي تنطبق عليه قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف إذا كان في دائرة الاجتهاد .
إن الأصل الذي تنطلق منه قاعدة الوسطية في هذا الباب يتضمن جملة من النصوص الشرعية ذات المقاصد المرعية، منها قوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ، وقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ، وقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ( ، فهذه نصوص ظاهرة المعنى في التحلي بالعدل والإنصاف وحسن الظن عند تقويم الآخرين سواء كانوا مخالفين في الأصول أو في الفروع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قدحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد ... ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم" .
ولا يخفى على طالب الحق أن المرء لا يمكن أن تتمحض فيه السنة، أو الخير، أو الهدى، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لذلك لا بد في هذا السياق من مرجعية يهتدي بها المرء في الموازنة، وهي متحققة في المنهجية القرآنية، والهداية النبوية، والآثار السلفية، قال تعالى: ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ، فالآية جاءت في سياق ذم بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلامية، إلا أنه وفي خضم بيان المساوئ بين الله أن منهم من يلتزم أداء الأمانة وإرجاع الحقوق إلى أهلها، وهذا دال على منهج الموازنة الحق الذي ينبغي أن يستظهره المسلم في تعامله مع المخالف، وسياق الآية في التعامل مع أهل الكتاب وهم كفار بالنص والإجماع، فكيف بالتعامل مع المخالف من أهل الإسلام، أو من أهل السنة. كما يدل على هذه المنهجية حديث حذيفة بن اليمان t: " كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دخن). قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) " ، فالحديث أثبت الخيرية للبعض مع كونها اختلطت بالشر، وهذا يقتضي النظر إلى المخالف وفقاً لمنهج الموازنات الذي دلت عليه هذه النصوص، إلا أن الأمر لا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بد من قيود، وقد نبه على ذلك كثير من أهل العلم، ومنهج السلف في هذا الباب هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ، قال الحافظ الذهبي: " ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم، على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن " ، ونفس المعنى قرره ابن رجب في قواعده: " والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه " .وهذا المنهج قد احتدم حوله النزاع وغلا فيه طرفان، طرف ينكره بإطلاق ويعتبره منهجاً مبتدعاً، وآخر بالغ في إثباته وتوسع في تطبيقه حتى أذهب سطوة إنكار المنكر ونقْدَ من يستحق النقد، وكلا الطرفين غير صواب، والحق التوسط في ذلك والإقتداء بالأئمة العلماء الذين أصلوا منهج النقد تنظيراً، وأحسنوا فيه تطبيقاً، وهذا أمر لابد منه عندما نحاول أن نطبق منهج السلف في أي جانب من الجوانب، أن ننظر إلى أقوالهم وتصرفاتهم في آن واحد حتى لا نغلط عليهم أو ننسب إليهم ما ليس من منهجهم، حيث أن القصور في فهم المنهج يؤدي إلى ما يؤدي إليه الغلو والله الموفق.
المبحث الثالث
معوقات وموانع الوسطية
لا يخفى على كل متتبع للأحداث التاريخية والمعاصرة، والمطلع على النصوص الشرعية، وأقوال العلماء، أنه ما من مجتمع تغيب عنه الوسطية والاعتدال والهدي النبوي إلا كان ذلك بسبب انتشار البدع والضلالات والأهواء، حيث يصبح المتسنن غريباً في مجتمعه، بعد أن ألف ذلك المجتمع تلكم الأهواء والانحرافات، فأضحى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وهذه الحقيقة سجلها أقوالاً كثير من أسلافنا ـ رحمهم الله ـ :
ـ قال حسان بن عطية المحاربي: " ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة ".
ـ وقال ابن سيرين: " ما أحدث رجل بدعة فراجع سنة ".
ـ وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: " والله ما أعرف من أمة محمد r شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً ".
ـ وعن أنس بن مالك t قال: " لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذه النكراء ولم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم، ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله ".
وكلام هؤلاء الأخيار من السلف حول زمن لم يشهد استحكام غربة السنة وأهلها، فكيف لو رأوا أزمنة تحولت فيها البدعة إلى سنة والسنة إلى بدعة، والله المستعان .
وبناء على ذلك فإن الباحث سيحاول الوقوف مع أبرز المعوقات والموانع التي تقف وراء غياب الوسطية أو إضعافها في المجتمع الإسلامي المعاصر.
المطلب الأول: الجهل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: ) وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ( " ، وقد استقصى الدكتور عبد الرحمن اللويحق مظاهر الجهل في الأمة وهي متعددة، أبرزها: الجهل بالكتاب والسنة، والجهل بمنهج السلف، والجهل بمقاصد الشريعة ، والذي يقف على النصوص الشرعية يجد مساحة واسعة فيها تحدثت عن قيمة العلم ومكانة العلماء، ويقابلها ذم الجهل وأهله، وهي أشهر من أن تساق في هذا الموضع، ولكن يكفيك أن نسوق حديثاً للنبي r يظهر كيفية انتشار الجهل بين الناس وما يحدثه من آثار وخيمة في المجتمع المسلم، ومنها بطبيعة الحال غياب الوسطية موضوع بحثنا، قال عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو t: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: " قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاء لما في الصدور وبيانا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول r؛ إما أن لا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة " . وقال الشاطبي مبيناً سبب الانحراف والضلال والتفرق: " وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم. ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمى؟ لأن رسول الله r وصفهم بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأن الفهم راجع إلى القلب، فإن لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم، وما تقدم أيضاً من قوله عليه السلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً..) " .
وصورة الانحراف عن الوسطية في هذا الباب يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: " كثير من أهل البدع مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، والممثلة يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير فيهم شَوْب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق، ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر بالمقالة التي لا تفهم حقيقتها، ولا تعرف حجتها. وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا، لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة، والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة. وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله، والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء، فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل، ويؤمن به، ويبلغه، ويدعو إليه، ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله، غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف، ولا متبعين لظن: من حديث ضعيف أو قياس فاسد ـ سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل ـ أو تقليد لمن لا يجب إتباع قوله وعمله، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون إتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى " .
المطلب الثاني: الابتداع:
من الأصول المقررة في كتاب الله تعالى أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لتقرير التوحيد ونبذ الشرك وتصحيح مفاهيم العقيدة، قال تعالى: ) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( ، وكل دعوة لا ترتكز في غاياتها وأهدافها ومناهجها على هذين الأصلين فهي مخالفة لنهج المرسلين وناقصة، ولا تؤتي ثمارها المرجوة فالقاعدة الأولى التي دلت عليها الآية: تعني تحقيق التوحيد والعقيدة الصحيحة وطاعة الله تعالى واتباع شرعه، والقاعدة الثانية: تعني تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تؤول إليه من الشرك، والكفر، والظلم، والفسق، والإعراض عن دين الله. ولذا تضمنت الدعوة إلى الله غايتين لا تصح إلا بهما، وهما ركناها: الأول: تقرير الدين والعقيدة والشريعة، وتعلمها، وتعليمها، ونشرها، والعمل بها. والثاني: حماية الدين والعقيدة والشريعة والدفاع عنها، وبيان ما يخالفها، وكل ذلك كان منهجاً قرآنياً، وهدياً نبوياً سار عليه الأصحاب والأتباع .
وبناء على ذلك فإن من أصول الإسلام الكبرى أن كل بدعة ضلالة، وهذا الأصل هو مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام كما روته عائشة رضي الله عنها: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ، وفي رواية مسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وحديث العرباض بن سارية t: " صلى بِنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ منها الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ منها الْقُلُوبُ فقال قَائِلٌ يارَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا، فقال: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فإنه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على هذه الأحاديث: " وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً، قال الله تعالى: ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ( ، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله ... وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به المتقربون " ، وانتهى رحمه الله إلى تقرير مقتضى الحديث أن البدعة محرمة على عمومها بدلالة العموم الذي ورد في سياقه دون أن يكون هناك ما يخصصه، وإذا أردنا أن نقرر ذلك وفقاً لمسلك المناطقة فإن الحديث جاء في إطار كلية موجبة، والمعروف أن الكلية الموجبة موضوعها مستغرق ومحمولها غير مستغرق، بمعنى أن أفراد الموضوع داخلون كلهم في حكم المحمول، وبهذا يتقرر أن البدع كلها ضلال، وإلا فإن الهدي النبوي كاف في بيان هذه القاعدة العظيمة، وبهذا يتبين لنا أن صورة الانحراف عن الوسطية في هذا الباب ظاهرة في كونها على خلاف الهدي النبوي في العلم والعمل، وكنا نبهنا على ذلك فيما مضى من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في تمييزه بين الطريق الشرعي والطريقين المبتدعين، طريق أهل الكلام والرأي البدعي، وطريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية.
المطلب الثالث: الغلو:
للتدين الحق مقياسان: مقياس الاستجابة لمطالب المنهج ومقتضياته، قال تعالى: ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ( ، ومقياس الطاقة والوسع، قال تعالى: ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( ، والمقياسان مترابطان متكاملان، فالاستجابة للمنهج مشروطة بالقدرة في المجال العملي، أما الغلو فهو منـزع مختلف، منزع شاذ لذينك المقياسين كليهما، مستدبر لهما جميعاً، إذ لايبرح الغالي أن يند ـ في فهم الدين ـ عن القواعد العلمية المنهجية الهادية لطريقة التفكير، ولا يفتأ ـ عند الأخذ العملي للدين ـ يحمل نفسه ما لا يطيق، فيسلك ـ من ثم ـ سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وإن حسنت نيته فإن حسن النية لا يغني عن سداد المنهج، ولا يصح أن يكون بديلاً له. إن قوام الإسلام وعماده حقائق ثلاث: الأولى: حقيقة العلو والعصمة في مصدر التلقي كتاب الله وسنة رسوله r، ومن المقطوع به أنه لم يرد في هذين المصدرين دعوة إلى الغلو، بل فيهما ما هو نقيض الغلو، أي الدعوة إلى التوسط، والنهي عن الغلو، قال تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (. الثانية: حقيقة وضوح المنهج، قال تعالى: ) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( . والثالثة: حقيقة الاستقامة على المنهج، قال تعالى: ) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ( ، ومن المنهج أن نعلم: أن الغلو شقوة وعنت، وأن الإسلام ما جاء لكي يشقي الناس، ولا يضيق عليهم بالعنت والشدة، بل جاء ليحقق سعادتهم والتيسير عليهم . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق ذم الغلو: " وأما في حديث أنس t من قول النبي r: ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ففيه نهي النبي r عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع. والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب من العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه منزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة. وفي هذا تنبيه على كراهة النبي r مثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين. وفيه أيضاً تنبيه على أن التشدد على النفس ابتداء يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله، إما بالشرع، وإما بالقدر: فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي r يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم: كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب. وأما بالقدر: فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضاً بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، ومثل كثير من الموسوسين في الطهارة: إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء مشقة مضرة. وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى: ) وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( ، من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال. والآصار ترجع إلى الإيجابات الشديدة، والأغلال هي التحريمات الشديدة، فإن الإصر هو الثقل والشدة، وهذا شأن ما وجب، والغل يمنع المغلول من الانطلاق، وهذا شأن المحظور. وعلى هذا دل قوله سبحانه: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ، وسبب نزولها مشهور" .
المطلب الرابع: ادعاء التيسير:
من المقاصد المرعية في الشريعة وقواعدها الكلية، مقصد وقاعدة التيسير ورفع الحرج، وقد دلت عليها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تمثل أصولاً لليسر في الإسلام، أما الكتاب ففي قوله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( ، وقوله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( ، وقوله تعالى: ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ( ، وقوله: ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( ، وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث أبي هريرة t عن النبي r قال: " إن الدين يسر وليس يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا " ، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " ما خير رسول الله r بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " ، فهذه نصوص ظاهرة المعنى جلية المقصد في تقرير قاعدة التيسير ورفع الحرج في الشرع، قال الشاطبي: " اعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعاً بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما.فأما الأول: فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ( إلى آخرها. فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه... والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشد من المشقة، أو حاد يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نوراً وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره ... وجاء هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائماً كثير. ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم y، ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد: كعمر، وعثمان، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين: كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خثيم، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم، وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم في اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم " .
إلا أن هناك من رام التيسير ورفع الحرج من غير بابه، يزعم العناية بمقاصد الشريعة وروح الدين، ويدعي أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، لو واجهتهم بمحكمات النصوص لفوا وداروا، وردوا صحيح الحديث، وهم في حقيقة أمرهم معطلة النصوص الجزئية للقرآن والسنة، لا يعرفون صحيحاً من ضعيف، تأولوا القرآن فأسرفوا، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وتمسكوا بالمتشابهات، وأعرضوا عن المحكمات، وهؤلاء هم أدعياء التجديد، وهم في الواقع دعاة التغريب والتبديد . ولو تأملنا مناط قولهم وحجته لما خرج عن أمرين : الأول: النظر إلى المقاصد دون النصوص ، الثاني: التوسع في فهم خاصية التيسير . وهما أصلان يستند عليهما هؤلاء في التأصيل والتقعيد، وقد أثمرا مظاهر متعددة عكسته أقوالهم، وتنظيراتهم، واجتهاداتهم فيما يزعمون، ومنها :
أولاً:اقتصارهم على القطعيات في الاستدلال، ورد الظنيات وإن كانت راجحة.
ثانياً:اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي، فالنصوص يجب أن تفهم وتؤول على ضوء المقاصد.
ثالثاً:الدعوة إلى الانسياق مع تطوير الشريعة بما يتلائم مع تطور الواقع، حتى وإن أفضى ذلك إلى تجاوز النصوص القطعية تحقيقاً للمقاصد.
رابعاً:تمسكهم بمقولة: حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله.
خامساً:دعوتهم إلى تغيير بعض القواعد الأصولية كي تبدو الشريعة مواكبة للعصر ومسايرة للتطور.
وأبرز الأمثلة التي تتمخض عن هذه المنهجية المتحللة: نفي وجود نظام حكم في الإسلام، والدعوة إلى إطلاق الحريات العامة دون ضابط شرعي، وتحرير المرأة، وجواز الإمامة العظمى للمرأة، وإلغاء بعض الحدود بحجة كونها صالحة لزمان التشريع دون غيره مما ينفي إطلاقيتها، وإباحة بعض المحرمات كفوائد البنوك الربوية، والغناء، والمصافحة ، والاختلاط، وزواج المسلمة بالكتابي.
والحق أن هذه المنهجية ليست إلا دعوى إلى التحلل من أحكام الشريعة باسم المقاصد والتيسير، وتفضي إلى إبطال الشريعة ونصوصها بحجة أن غالب نصوصها ظنية، وجعل العقل حاكماً على الشرع لكونه قائماً على أسس قطعية، والعجيب أنهم يستندون في منهجيتهم العرجاء هذه على كتابات ابن القيم والشاطبي بحجة أنهم بحثوا المصلحة دون النظر إليها بمنظار الشريعة وضوابطها، وهي حجة عرية عن الدليل والبرهان، وقد انبرى كثير من الباحثين إلى الرد على أرباب شريعة المقاصد والتحلل من الشريعة، فأتوا على قواعدهم بالدحض والبطلان، ويكفينا اقتباساً ما قاله الشيخ مشهور حسن سلمان في مقدمة تحقيقه للموافقات؛ كونه يمثل مستنداً يتكأ عليه هؤلاء في نشر باطلهم وانحرافهم، فيقول: " لابد من التنبيه على أن كثيراً من البعيدين عن الجادة ، والمحاربين للدعوة السلفية يتعلقون بكلام للشاطبي في كتابه هذا، ويأتون به في معرض التجديد والكلام على ما أصاب المسلمين من ركود وتخلف وجمود، ويخرجون بنتائج وأحكام عجيبة غريبة، ويمكن تسمية صنيعهم هذا بالتلبيس المقلوب. فها هو مثلاً محمد عابد الجابري يذهب في مقالة له نشرت في مجلة العربي بعنوان: ( رشدية عربية أم لاتينية ) إلى أن الشاطبي في كتابه الموافقات يعد عقلانياً، وها هو راشد الغنوشي يحتج بكلام للشاطبي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية في مواطن كثيرة، وكأني به يقرر أن الشاطبي اعتبر المصلحة هي أساس الشرع، وهذا ما يلبس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذا القاعدة ذات البريق الجذاب ... "، ثم قال: " ولن أرد على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب إلى أن اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشرعية يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وإن قوله ( فيما كان لفظه عاماً لا يعني أن حكمه عام أيضاً ) يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل المثال فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية: كقطع السارق، وجلد الزاني أو رجمه، وقتل المرتد، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: ( يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص ) " ، وإذا كان ديدن هؤلاء التيسير والتخفيف على المكلفين، فلا شك أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة كما دلت عليه نصوص الشريعة في غير موضع من مواضعها كتاباً وسنة، إلا أن الإشكال يكمن في كيفية فهمنا للتيسير، ومدار هذا الفهم نصوص الشريعة ومقاصد الشارع منها وما دلت عليه بظواهرها، ومن الخطأ البين أن يكون التيسير فيه مجاوزة لهذه النصوص؛ لأن الأخذ بالأيسر مع مصادمة النصوص تحكيم للهوى على الأدلة فتكون الأدلة تابعة لا متبوعة، وهو ما يخالف الأصل القرآني: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( ، ثم ما وجه حصر التيسير بالتخفيف ورفع التكاليف دون مراعاة مقتضيات النصوص ولوازمها، وكأن الشريعة بأوامرها ونواهيها جاءت مقيدة للمكلفين بالمشاق غير المحتملة، ألا فليعلم دعاة التيسير والتخفيف، بل دعاة التحلل ـ جهلوا أم تجاهلوا ـ أن الشارع لم يقصد في وضعه الشريعة المشقةَ بالناس، ولم يقصد كذلك رفع المشاق المعتادة عن الناس، وإنما قصد في التشريع ما فيه مصلحة للعباد في الدنيا والآخرة، وهذه قد لا تحصل إلا بأعمال شاقة ـ محتملة قطعاً ـ كالحج والجهاد وغيرهما، ذلك أن الشارع ـ كما ذكر ابن تيمية ـ إنما حرم الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة، فلا ينبغي النظر إلى المقاصد والتيسير على أنها دائرة في إطار التخفيف ورفع التكاليف عن المكلف، وإنما المعيار تحقيق مصلحة العباد في العاجل والآجل .
الخاتمة
يقتضي المنهج العلمي من الباحث أن يقدم جملة ما توصل إليه من نتائج في ثنايا بحثه؛ لتكون خاتمة له وخلاصة جهده في الموضوع المعني، وبناء على ذلك فإن أهم ما توصل إليه الباحث في هذه الدراسة ما يأتي:
1-تعريف الوسطية بأنها: سلوك محمود – مادي أو معنوي – يعصم صاحبه من الانزلاق إلى طرفين متقابلين – غالبا ً – أو متفاوتين تتجاذبهما رذيلتا الإفراط والتفريط, سواء في ميدان ديني أم دنيوي.
2-تعريف المقاصد بأنها: المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها, سواء أكانت تلك المعاني حِكَما ًجزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية, وهي التي تجتمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين.
3-تعريف القاعدة المقاصدية بأنها ما يعبر به عن معنى عام مستفاد من أدلة الشريعة المختلفة، اتجهت إرادة الشارع إلى إقامته من خلال ما يبنى عليه من أحكام .
4-الاطلاع على النصوص القرآنية الكثيرة التي تتحدث عن الوسطية، بالتصريح أو التلميح، والتعرف على معانيها من خلال كلام الأئمة علماء التفسير وغيرهم، وأن الوسطية تعني أكثر من معنى في تلك النصوص، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بـ(العدل) واختار الطبري أن المراد بالوسطية هنا الجزء الذي هو بين الطرفين مثل ( وسط الدار ) .
5-الاطلاع على معنى الوسطية في نصوص السنة النبوية، وأنها تعني الاعتدال والتوسط بين الإفراط والتفريط .
6-الاستقراء لتاريخ ثلاث من الدعوات التي اشتهرت بوسطيتها واعتدالها علماً وعملا ًودعوة، وهي دعوة : شيخ الإسلام بن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والأئمة المجتهدين في اليمن، وتم التعريف بإيجاز بمناهج هذه الدعوات وإبراز مظاهر الوسطية لديها، وأنها كانت على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل السنة والأثر من سلف هذه الأمة.
7-انتشار أثر تلك الدعوات في العصر الحاضر، حيث سار عدد من العلماء في كثير من بقاع العالم الإسلامي على نهجها، ونشروا مبادئها، وكوَّنوا مدارس في بلدانهم تقتفي أثرها، وتنهل من معينها.
8-إن الدعوات المعاصرة من منظمات وجماعات وجمعيات كلها تدَّعي الوسطية والاعتدال، غير أن بعضها قد جنح إلى طرف التفريط أو الإفراط في جوانب من دعوته، وبعضها قد يجمع بين الطرفين المتناقضين بحيث يفرِّط في جهة ويفرُط في أخرى، وهناك من سلمه الله من ذلك فثبت على منهج الوسطية ولزمه في كل أو جل جوانب دعوته.
9-الوسطية مفتاح الصراط المستقيم، إذ حقيقة الصراط المستقيم أنه سبيل بين سبيلين منحرفين، فكانت معرفة حقيقة الوسطية، والاستقامة عليها، ضمان للاستقامة عليه .
10-إن تحقيق معنى الوسطية التي ترشد إليها القواعد الكلية والمقاصد الشرعية، ضمان الاعتدال والتوسط في أبواب الاعتقاد وأبواب العلم والعمل, وفي الحكم على الرجال ونقد المخالف, وهذا ما كان عليه أهل السنة أتباع السلف الصالح في تلك الأبواب وغيرها، فهم وسط في فرق الأمة كما أن الأمة وسط في سائر الأمم.
11- هناك معوقات وموانع تحول بين المرء وبين لزوم المنهج الوسط المأمور به والمحمود أصحابه هي: الجهل – والابتداع – والغلو – والإمعان في طلب التيسير, وإن من أشد موانع الوسطية محاولة تطويع نصوص الشرع لمجاراة الواقع.
وهناك جملة من التوصيات التي تجعل ما من شأنه الاهتمام بمفهوم الوسطية ومقتضياته، وهي تتمثل فيما يأتي:
1-ضرورة التواصل بين النخب العلمية والفكرية في إطار أمثال هذه المؤتمرات والاجتماعات في صورها الدورية وليس الطارئة؛ بحيث تساعد في التوصل إلى قواعد عامة وأطر كلية تحكم المفاهيم وتؤصلها.
2-الإشراف على المناهج بشتى صورها سواء كانت مدرسية أو جامعية، أو مناهج مراكز علمية ودعوية وما شابه ذلك، بغية توحيد الرؤى المفاهيمية ودفع الإشكاليات المتعلقة بمفهوم الوسطية وأمثاله سواء في الجانب التنظيري والجانب الحركي.
3-الاهتمام بفئة الشباب؛ كونها الغالب عليها التأثر بمناهج الإرهاب والغلو، وهو ما يؤدي إلى إشكاليات منهجية وحركية، ما من شأنها زعزعة المجتمع وخلخلة أركانه، والاهتمام يقتضي وضع برامج تعليمية وعملية من أجل استغلال هذه الفئة فيما هو نافع على المستوى الفردي والمجتمعي، وحل مشاكل البطالة وغيرها.
4-الاهتمام بالجانب الإعلامي؛ كونه يمثل الوسيلة العظمي في التعبئة على الأفكار المنحرفة، وتساهم في التلقي المخالف لمنهج السلف، وهذا يستدعي أن يساهم المؤتمرون في الدعوة إلى وضع برامج إعلامية توعوية وإرشادية ذات بعد متواصل وليس مؤقتاً، يكون أثرها في المنظور البعيد.
المراجع
ـ أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط3، 1423هـ/ 2003م.
ـ أدب الاختلاف في الإسلام، د. طه جابر العلواني، هيرندن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1413هـ/1992م.
ـ أدلة الوسطية في القرآن والسنة، د. محمد بن عمر بازمول، بحث منشور ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو.
ـ الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، المنامة، مكتبة التوحيد، ط1، 1421هـ/ 2000م.
ـ اقتضاء الصراط المستقيم، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل، طبعة خاصة بالمحقق، ط1، 1404هـ.
ـ بيان النظم في القرآن الكريم، محمد فاروق الزين، دمشق، دار الفكر، ط1، 1424هـ/2003.
ـ بين علمي أصول الفقه والمقاصد، محمد الحبيب ابن الخوجة، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425هـ/ 2004م.
ـ تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الحسيني الزبيدي، الكويت، وزارة الإرشاد والأنباء، 1385هـ/ 1965م.
ـ التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، تونس، الدار التونسية للنشر، 1984م.
ـ تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، ط2، بدون تاريخ.
ـ تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، الرياض - دار السلام، دمشق – دار الفيحاء، ط2، 1418هـ/ 1998م.
ـ تفسير روح البيان، إسماعيل الخلوتي الحنفي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ.
ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الكويت، جمعية إحياء التراث، ط2، 1422هـ/ 2001م.
ـ الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ/ 2006م.
ـ دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، د. ناصر عبد الكريم العقل، الرياض، دار إشبيلية، ط1، 1418هـ/1997م.
ـ دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية ، يوسف القرضاوي ، القاهرة ، دار الشروق ، ط1 ، 1427هـ/ 2006م.
ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين الألوسي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ.
ـ زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط3، 1404هـ/ 1984م.
ـ السراج في غريب القرآن، د. محمد عبد العزيز الخضيري، مجلة البيان، ط1، 1429هـ/2008م.
ـ سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1405هـ/1985م.
ـ صفة الغرباء، سلمان بن فهد العودة، صنعاء، مركز الصديق العلمي، ط4، 1421هـ/2000م.
ـ ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأثرها الفقهي، عبد القادر بن حرز الله، الرياض، مكتبة الرشد، ط1، 1428هـ/ 2007م.
ـ علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، الرياض، مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ/ 2001م.
ـ علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17، الاجتهاد المقاصدي: حجيته .. ضوابطه .. مجالاته، د. نور الدين بن مختار الخادمي، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1419هـ/ 1998م.
ـ الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة لعبد الرحمن بن معلا اللويحق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، 1423هـ/2002.
ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، بيروت، دار المعرفة، 1379م.
ـ قواعد ابن رجب، ابن رجب الحنبلي، مكة المكرمة، مكتبة الباز، 1999م.
ـ القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها، د. إسماعيل بن حسن بن علوان، الرياض، دار ابن الجوزي، 1420هـ/ 2000م.
ـ قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، دمشق، دار الفكر، ط2، 1426هـ/ 2005م.
ـ كتاب الفقيه والتفقه، الخطيب البغدادي، الدمام، دار ابن الجوزي، ط1، 1417هـ/1996م.
ـ كشاف اصطلاح الفنون، محمد علي التهانوي، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1996م.
ـ كيف نفهم التيسير؟: وقفات مع كتاب ( افعل ولا حرج )، فهد بن سعد أبا حسين، الرياض، دار المحدث، ط1، 1428هـ.
ـ مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة النبوية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1416هـ/1995م.
ـ مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر، عبد الرحمن بن معلا اللويحق، طبعة خاصة بالمؤلف، ط1، 1419هـ/1998م.
ـ المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ.
ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425هـ/ 2004م.
ـ مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، د. يوسف أحمد محمد البدوي، الأردن، دار النفائس، ط1، 2000م.
ـ ملامح رئيسة للمنهج السلفي، د. علاء بكر، مصر، دار العقيدة، ط2، 2002م.
ـ منهاج السنة النبوية، شيخ الإسلام ابن تيمية، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406هـ/1986م.
ـ منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، دار الهدي النبوي، مصر، ط1، 1426هـ/2005م.
ـ منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، لندن، المنتدى الإسلامي، ط1، 1412هـ.
ـ الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1423هـ/2002م.
ـ الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، الخبر، دار عفان، ط1، 1417هـ/1997م.
ـ الوسطية في القرآن الكريم ، د. علي محمد الصلابي، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ.
ـ الوسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم، القاهرة، دار الفتوح الإسلامية، ط1، 1416هـ/1995م.
ـ الوسطية مفهوماً ودلالة، د. محمد ويلالي، بحث منشور في موقع الألوكة.
ـ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، عبد العزيز بن ناصر الجليل، الرياض، دار طيبة، ط1، 1425هـ/2004م.
جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم