البحوث

الوسطية في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية

2010-12-23



 الوسـطية ‏في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية ‏

‏ دراسة في المفهوم والدلالات ‏

 

‏ أحمد بن حسن المعلم ‏

 

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1)‏

‏‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ ‏الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(

 

‏ حمداً لمن بجزيـل الفضل صيَّرنا من فِرقةٍ وسط في الأمة الوَسَـطِ

‏جمــاعةِ الحق لا تنفك سائرةً على الصراطِ بلا زيغٍ ولا شَطَـطِ‏

‏ نقفو سبيلَ النبي المصطفى وكذا أصحابه خِيرة الأسلاف و الفرط‏

‏والتابعــين بإحسان ومن مَسَكوا في ذا السبيل بحبل، غير منفَـرِط‏

‏ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك ‏على محمد وعلى آل محمد،كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:‏

 

‏ فإن دراسة موضوع الوسطية من حيث هي تعتبر مهمة، والحاجة إلى البحث فيها وتحقيقها ماسة نظراً ‏للإقبال الشديد على هذا الباب من العلم، وكثرة المتناولين له بمشارب مختلفة، ووجهات نظر متباينة؛ فكانت ‏الحاجة لدراسته من وجهة النظر السنية السلفية الواقفة عند ضوابط العلم وحدوده الأصيلة في غاية الأهمية، ‏وإذا كان هذا قدر موضوع الوسطية بصوره عامة، فإن دراسته في الجزء المتعلق بهذا البحث " في ضوء ‏القواعد الكلية والمقاصد الشرعية" مهمة بشكل أكبر؛ لأن المعركة هنا أشد احتداماً؛ ولأنه يترتب على هذا ‏النوع من الأبحاث فروع كثيرة وجوانب مهمة في النواحي النظرية والتطبيقية، وهذا ما يبرز لنا الأهمية الكبيرة ‏لهذا البحث، والموضوع الذي يتناوله:‏

وقد دفع إلى اختيار هذا البحث عدة أسباب:‏

‏1- منها الأهمية الكبيرة التي يحتلها.‏

‏2- ومنها قلة الأبحاث المتداولة في هذا الموضوع وخصوصاً ما يتعلق بالمنهج السلفي.‏

‏3- ومنها أن من تناول هذا الموضوع ربما كان تناوله له من وجهة نظر تختلف عن الوجهة التي ينطلق منها ‏الإخوة المشاركون في هذا المؤتمر.‏

‏4- حاجة الخطاب الإسلامي إلى معرفة مفاصل الوسطية وأركانها؛ بغية تنزيلها في الواقع الإسلامي ذي ‏المشارب المختلفة. إلى غير ذلك من الأسباب.‏

‏ وعنوان هذه الورقة " الوسطية في ضوء القواعد الكلية والمقاصد الشرعية " أتقدم بها إلى مؤتمركم الكريم؛ ‏راجياً أن تكون موافقة لمرادكم، محققة للهدف الذي وُضعت له،وتحتوي على:‏

تمهيد، وثلاثة مباحث تحت كل مبحث عدد من المطالب، تشمل تحديد المفاهيم، والوسطية بين دلالات ‏النصوص وأقوال العلماء، والوسطية كليات وقواعد، ومعوقات وموانع الوسطية.‏

أسأل الله تعالى أن ينفع بها، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسئول.‏

 

تمهيد في المفاهيم

‏ تعتبر دراسة المفاهيم مفتاحاً لفهم ما يحيط بالعلم من إشكاليات معرفية وموضوعية، وترجع أهميتها ليس ‏لكونها جانباً من جوانب الوقوف على التراكمات المعرفية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى فهم الظواهر ‏وتفسيرها بغية الوقوف على حقائقها بما يساعد على وضع منهجية معرفية قد تعتبر بعد ثبوت صوابها قانوناً ‏وقاعدة ومرجعاً للمتخصصين، ومفهوم الوسطية من المفاهيم التي كانت مسرحاً لتغاير الرؤى والأفكار فلم ‏يسلم من توظيفٍ في دائرة الاستظهار عند بعض من استغله لتحقيق مآربه ومقاصده، لذلك ونحن في سياق ‏التأصيل لهذا المفهوم بحاجة إلى الوقوف على دلالات النصوص الشرعية المتعلقة بهذا المفهوم آخذين بنظر ‏الاعتبار سياقها النصي والموضوعي والتنزيلي، وهذا بلا شك يقتضي النظر في دلالات النصوص الكلية وما ‏تتعلق بها من مقاصد رعاها الشارع وأخذها بالاعتبار في تشريعه.‏

أولاً: مفهوم الوسطية: ‏

الوسطية ترجع في أصل وضعها اللغوي إلى مادة وسط، وهي دالة على جملة من المعاني تتقارب من حيث ‏دلالتها، ومنها: العدل، والخيار، والتوسط بين الجيد والردئ، وبين القادمة والآخرة، والإصبع الوسطى، ‏والصلاة الوسطى، والوساطة، والإكرام، وواسط وهو لفظ يطلق على مواضع متفرقة من البلاد الإسلامية ‏أشهرها واسط وهي مدينة بالعراق بين البصرة والكوفة ‏. ‏

وأما في الاصطلاح الشرعي فإن الوسط لا يخرج عن مقتضى اللغة، وقد استخدم القرآن لفظ الوسط معبراً ‏فيه عن إحدى خصائص هذه الأمة، وإحدى قواعد منهجيتها، قال تعالى: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏(‏ ‏ ، ويمكن القول إن الوسطية اصطلاحاً: " سلوك محمود - مادي أو معنوي - يعصم صاحبه من الانزلاق إلى ‏طرفين مُتقابلين - غالبًا - أو مُتفاوتين، تتجاذبهما رذيلتا الإفراط والتفريط، سواء في ميدان ديني أم ‏دنيوي"‏ ‏.‏

 

ثانياً: مفهوم المقاصد:‏

المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل ( ق ص د ) ومواقعها في كلام ‏العرب متعددة الأغراض وكثيرة المعاني، منها: استقامة الطريق، والسهل، والاعتماد،والأَم، وإتيان الشيء، ‏والتوسط بين الإسراف والتقتير، والاستقامة، والاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض نحو الشيء، ومواصلة ‏الشِعر، ومتوسط الهيئة، والكسر، والعدل، والقسر والقهر، والجوع، والعوسج، والقطعة مما يكسر، والبعير ‏السمين، وتشطير الشِعر، والتهذيب والتنقيح، والعصا، والإصابة، والقرب ‏. ‏

وأما في الاصطلاح فإن هناك إجماعاً عند من كتب في المقاصد على عدم وجود تعريف محدد في كتابات ‏المتقدمين، على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها، وأتوا ‏بعبارات أو مصطلحات تظهر الاهتمام بهذا العلم، ومنها: ( المصلحة، والحكمة، والعلة، والمنفعة، والمفسدة، ‏والغايات، والمرامي، والأسرار، والمعاني، والمراد، والضرر، والأذى .. )‏ ، وسبب هذا الإعراض عن وضع ‏تعريف محدد للمقاصد من قبل العلماء المتقدمين أن صدر هذه الأمة لم يكونوا يتكلفون ذكر الحدود ولا ‏الإطالة فيها؛ لأن المعاني كانت عندهم واضحة ومتمثلة في أذهانهم وتسيل على ألسنتهم وأقلامهم دون ‏مشقة ، وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى القصد اصطلاحاً هو العلامة ‏محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية )‏ ، حيث رسمها بقوله: " مقاصد التشريع ‏العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها ‏بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو ‏التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ‏ملحوظة في أنواع كثيرة منها "‏ ، وكشأن من خاصيته السبق في الأمور فإن تعريف ابن عاشور لم يخل من ‏قصور من جهة افتقاده خاصية التعريف المتمثلة في كونه جامعاً للمعرف مانعاً من دخول غيره فيه، حيث ‏أدخل في المقاصد الخصائص العامة للتشريع، كما أن هذا التعريف اقتصر على المقاصد العامة للشريعة وأغفل ‏المقاصد الخاصة، وهو ما استدركه ابن عاشور نفسه حيث ساق لها تعريفاً في كتابه ، ولقد توالت بعده جهود ‏الباحثين في وضع تعريف للمقاصد، وهي تمثل دليلاً على مدى الاهتمام بهذا العلم ومحاولة ضبطه بقواعده ‏تسهيلاً له وإعانة لأهل العلم في تيسير مسالك الاستنباط من خلال ربطها بهذا العلم، ويظهر من خلال ‏استقراء هذه المحاولات أن هناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم ‏التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه للشريعة، وحسبنا في هذا المقام أن نسوق تعريف الدكتور نور الدين ‏الخادمي؛ لأنه نص في تعريفه على تقرير عبودية الله تعالى ـ وهي المقصد الأعظم من الخلق ـ مع اعتبار ‏مصالح الخلق في الدارين، فيقول ـ معرفاً للمقاصد ـ: " المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، ‏والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن ‏هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين "‏ ‏. ‏

ثالثاً: مفهوم القواعد:‏

القواعد لغة جمع قاعدة، وترجع إلى أصل ( قعد ) من القعود وهو الجلوس، قال الزبيدي: " والقاعدة أصل ‏الأس، والقواعد الأساس، وقواعد البيت أساسه، وقال الزجاج: القواعد أساس البناء التي تعمده، وقولهم: بنى ‏أمره على قاعدة، وقواعد، وقاعدة أمرك واهية، وتركوا مقاعدهم: مراكزهم، وقواعد السحاب: أصولها ‏المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء ... "‏ ‏. ‏

وأما القاعدة في الاصطلاح فقد تعددت عبارات العلماء في تعريفها، فعرَّفها الجرجاني بأنها: " قضية كلية ‏منطبقة على جميع جزئياتها "‏ ، وعرَّفها الكفوي بأنها: " قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام ‏جزئيات موضوعها، واستخراجها تفريعاً "‏ ‏ ، وذكر التهانوي بأن القاعدة تطلق على معان ترادف الأصل، ‏والقانون، والمسألة، والضابط، والمقصد ‏. وهي عبارات تنطلق على القاعدة الفقهية والأصولية، أما القاعدة ‏المقاصدية التي نحن بصدد بحثها فقد عرَّفها بعض الباحثين استنطاقاً من كلام الشاطبي في موافقاته بقوله: " ما ‏يعبر به عن معنى عام، مستفاد من أدلة الشريعة المختلفة، اتجهت إرادة الشارع إلى إقامته من خلال ما بني عليه ‏من أحكام "‏ ، وظاهر أن تعريفه هذا قصد به كليات المقاصد وتفريعاته بدليل أنه مثَّل على القاعدة ‏المقاصدية ببعض القواعد الدالة على مراعاته هذه الكليات، ومنها ‏: القواعد المتعلقة برفع الحرج في ‏الشريعة كقاعدة: ( الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه )، وقاعدة: ( قصد الشارع التكليف لا ‏لذاته وإنما لما يترتب عليه من مصالح تعود على المكلف )، وقاعدة: ( المشقة غير المحتملة تفضي إلى رفع ‏التكليف على الجملة )، والقواعد المتعلقة بالمصالح والمفاسد كقاعدة: ( وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في ‏العاجل والآجل معاً )، وقاعدة: ( المصالح والمفاسد راجعة إلى خطاب الشارع )، ومن المعلوم أن اليسر ورفع ‏الحرج ومراعاة المصالح وجلبها ودرء المفاسد ودفعها من أعظم مقاصد الشريعة، والقراءة المتأنية تظهر لنا أن ‏هذه القواعد تدور في إطار الكليات المقاصدية، الأمر الذي ندرك معه احتضان المقاصد لها، وبهذا يمكن معرفة ‏العلاقة التداخلية بين المفهومين ( الكليات والمقاصد ). ‏

 

‏ المبحث الأول ‏

الوسطية بين دلالات النصوص وأقوال العلماء

‏ليس غريباً ونحن نؤصل لمفهوم الوسطية أن نقف على مرجعه في نصوص الشريعة؛ كونها الأصل الذي يستند ‏عليه في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية، وهذا التأصيل يستدعي استقراء النصوص القرآنية والنبوية ‏للوقوف على استعمالاتها لهذا المفهوم من حيث الألفاظ والمعاني، وقد جاء الحديث عنه في إطار التصريح تارة ‏وفي إطار التلميح تارة أخرى، والمنهج العلمي الرصين يستلزم تتبع المواضع المتعلقة بهذا المفهوم من أجل ‏الخروج بمعنى كلي يشكل إطاراً مرجعياً لغيره من المفاهيم ذات العلاقة، مما يجعلنا منقادين ـ ونحن في سياق ‏هذا التأصيل ـ لمقاصد القرآن والسنة النبوية؛ كونهما حاكِمَيْن على كل نص سواهما، وبناء على ذلك فإننا ‏بحاجة إلى معرفة نظر الشارع لهذا المفهوم من خلال استقراء نصوصه، وكذلك معرفة نظر العلماء من المحققين ‏في تأصيلهم لهذا المفهوم في ضوء فهمهم لنصوص الشرع، ونختم بنماذج تاريخية لبعض الدعوات التي اتسمت ‏بالوسطية في منهجيتها ودعوتها. ‏

 

المطلب الأول: الوسطية في ضوء نصوص الشريعة: ‏

‏ لقد كان لمصطلح الوسطية في نصوص الشريعة مجال رحب لمن أراد الوقوف على أصله ومضمونه، ولا ‏شك أن وراء ذلك مقصداً وغاية، فالشارع الحكيم أراد من عباده أن يتصفوا بهذا الوصف ويكون لهم منهجاً ‏ومسلكاً، ولذلك حري بنا في سياق موضوعنا هذا أن نقف على تلكم المواضع التي أشارت إلى الوسطية ‏تصريحاً وتلميحاً في كتاب الله تعالى وسنة النبي ‏r‏.‏

المقصد الأول: الوسطية في ضوء النصوص القرآنية: ‏

‏ وردت كلمة وسط في القرآن الكريم في إطار التصريح في خمسة مواضع: ‏

‏1- قوله تعالى: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏(‏ ‏ ، وقد جاء تفسير هذه الآية عن رسول الله ‏r‏ كما ‏روى ذلك البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ‏t‏: قال: قال رسول الله ‏r‏: " يدعى نوح يوم ‏القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما ‏أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ: ‏)‏ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ‏شَهِيدًا ‏(‏. فذلك قول الله جل ذكره: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ ‏الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ‏(، والوسط العدل "‏ ، وهو أحد المعاني المرادة ولكن لا يمنع من أن يكون هناك ‏معانٍ أخرى.‏

قال الطبري في سياق تفسير هذه الآية: " وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي ‏بـمعنى: الـجزء الذي هو بـين الطرفـين مثل ( وسط الدار ) مـحرّك الوسط مثقّله، غير جائز فـي ‏سينه التـخفـيف. وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم فـي الدين، فلا هم ‏أهل غلوّ فـيه غلوّ النصارى الذين غلوا بـالترهب، وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه، ولا هم أهل ‏تقصير فـيه، تقصير الـيهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبـياءهم، وكذبوا علـى ربهم، وكفروا به، ‏ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه. فوصفهم الله بذلك إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها "‏ ‏. ‏

وقد جرى على منواله القرطبي ، وابن كثير ، والسعدي ، وابن عاشور ، ومن المعاصرين من ‏جعل الوسطية التي قصدها الشارع دائرة مع عنصرين لا بد من توافرهما: الخيرية ـ البينية ، فالجمع بين هذين ‏العنصرين يثمر لنا الوسطية التي مدحها الله تعالى ‏.‏

‏2ـ قوله تعالى: ‏)‏ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏ ‏ ، قال الخلوتي الحنفي: ‏‏" والصلاة الوسطى أي المتوسطة بينها على أن تكون الوسطى صفة مشبهة، أو الفضلى منها على أن تكون ‏أفعل تفضيل تأنيث الأوسط وأوسط الشيء خيره وأعدله وهي صلاة العصر؛ لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي ‏نهار، ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم ‏وبيوتهم ناراً ) وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة ‏النهار "‏ ، وقد نقل القول بكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ابن الجوزي في تفسيره ونسبه إلى جماهير ‏أهل العلم، وذكر منهم علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبا أيوب، وابن عمر في رواية، ‏وسمرة بن جندب، وأبا هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبا سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، ‏والحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن ‏عمير، وزر بن حبيش، وقتادة، وأبا حنيفة، ومقاتل في آخرين ‏. ‏

‏3ـ قوله تعالى: ‏)‏ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ‏(‏ ‏ ، والمراد بالأوسط هنا ‏على الراجح المنزلة بين منزلتين، والنصف بين طرفين، وإن كان أصل اللفظ دائراً مع الأعلى والخيار والعدل، ‏وقد أجمع العلماء على أن الوسط بمعنى الخيار هاهنا متروك ، على الرغم من كون سياق الآية قد جعل ‏معنى الأوسط مغايراً لمعناها اللغوي، فإنه من جهة أخرى يؤكد ما تقدم من كون اللفظ في أصله اللغوي يدور ‏مع العدل والخيار.‏

‏4ـ قوله تعالى: ‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏ ‏ ، والأوسط هنا بمعنى الأحسن والأرجح ‏عقلاً ورأياً، أو الأوسط سناً، أو الأعدل والأفضل ‏.‏

‏5ـ قوله تعالى: ‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏ ‏ ، والمعنى توسط جموع الأعداء ‏.‏

‏ فهذه الآيات جاء فيها لفظ الوسط صريحاً، وهي كما ترى لا تخرج عن المعنى اللغوي لأصل الكلمة، وهو ‏معنى توافق عليه الشرع كذلك كما هو مقتضى السياقات القرآنية المتعلقة باللفظ المعني، إلا أن هناك نصوصاً ‏كثيرة جاء فيها معنى الوسطية في إطار ألفاظ أخرى؛ لتدل على هذا المعنى وفق منهجية قرآنية واضحة البرهان ‏ثابتة البنيان، والباحث لا يسعه أن يقف عند هذه النصوص بأجمعها؛ لكونها كثيرة، إلا أنه سيقف مع بعضها ‏موضحاً ومظهراً مقاصدها ومعانيها، وسيحيل إلى غيرها من خلال التنويه عمن فصل الحديث عنها فيما رقم ‏ورسم.‏

‏6ـ قوله تعالى: ‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ‏الضَّالِّينَ ‏( ، وجه دلالة الآية أنه سبحانه وصف الصراط المستقيم بأمرين: الأول أنه مستقيم، والثاني أنه غير ‏صراط المغضوب عليهم وهم اليهود، وغير صراط النصارى، وهم أهل الغلو في الرهبانية والتعبد، حتى ‏خرجوا عن حدود الشرع، ليس فقط في العبادة بل حتى في الاعتقاد، فإذا كان الصراط المستقيم غير صراط ‏اليهود والنصارى، وكان صراطهم صراط غلو في الدين، دل ذلك على أن الصراط المستقيم الذي شرعه الله ‏عز وجل صراط لا غلو فيه، فهو بين طرفين إفراط وتفريط، وهذا هو معنى الوسطية التي هي منهاج الدين ‏الإسلامي ‏.‏

‏7ـ والمعنى نفسه يظهر جلياً كذلك في قوله تعالى: ‏)‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ‏وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ ‏بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ‏إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏ ‏ ‏.‏

‏8ـ قوله تعالى: ‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ‏(‏ ‏ ، قال ابن كثير: " أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ‏ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين "‏ ‏.‏

‏ وهذه الآيات بعد بيانها يظهر بجلاء أنها تصب في إطار المنهج الوسطي الذي دل عليه القرآن الكريم، مع ‏العلم أن الآية المركزية التي يدور معها مفهوم الوسطية هي قوله تعالى: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏(‏ ‏ ، ‏دون أن يغفل الباحث التنبيه على أن القرآن الكريم كله يدعو إلى الوسطية والعدل والإنصاف وما يتعلق ‏بذلك من مفاهيم واصطلاحات، بدليل قوله تعالى: ‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ‏(‏ ‏ ، فلفظ الأقوم ‏هنا يشير إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم؛ لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد ‏قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكاً إلى ناحية من نواحي الأخلاق ‏والطبائع إلا سلكه إليها تحريضاً أو تحذيراً، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه ؛ ولذلك جاء ‏وصف الدين والشريعة والهدى بهذه اللفظ في اشتقاقات مختلفة ترجع إلى أصل واحد كما هو الحال بألفاظ: ‏القيمة، أقوم، قيماً ‏.‏

المقصد الثاني: الوسطية في ضوء نصوص السنة النبوية: ‏

‏ إن المتتبع لنصوص السنة النبوية يظهر له أن السنة أتت بلفظ الوسط في إطاره الصريح، نبهت عليه ‏كذلك في سياق ألفاظ أخرى لا تخرج عن مقتضى معناه ومقصده وإن اختلفت معه في اللفظ، ولذلك سيقف ‏الباحث على بعض هذه النصوص؛ من أجل بيان مقاصد السنة حول هذا الموضوع. ‏

‏1ـ فمن الأحاديث التي جاء فيها لفظ الوسط صريحاً قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا سألتم الله فاسألوه ‏الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة "‏ ، وقوله ‏r‏: " إذا وضع الطعام، فخذوا من حافته، وذروا ‏وسطه، فإن البركة تنزل في وسطه"‏ ، فهذان حديثان جاء ذكر الوسط فيهما صريحاً ومعناه ظاهر وإن ‏اختلف سياقه في الحديثين، فالمراد بالأوسط في الحديث الأول الأعدل والأفضل ، فيكون موافقاً لقوله ‏تعالى: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏(‏ ‏ ، أما الحديث الثاني فعلته ظاهرة المعنى حيث جاء التصريح بكون ‏البركة تنزل في وسطه أو في ذروته وأعلاه.‏

‏2ـ قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين ‏يغلبه"‏ ، وقوله ‏r‏: " إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا "‏ ، ‏والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، ولا شك أن هذين الحديثين ‏فيهما عَلَم من أعلام النبوة كما أشار إلى ذلك ابن المنير، فالشواهد الحسية أظهرت أن كل متنطع في الدين ‏ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى ‏الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته ‏. ‏

‏3ـ حديث أنس بن مالك ‏t‏ قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ‏r، يسألون عن عبادة النبي ‏r، ‏فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي ‏r؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال ‏أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا ‏أتزوج أبداً، فجاء رسول الله ‏r‏ فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ‏لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) "‏ ‏. قال ابن بطال في ‏شرح هذا الحديث: " في هذا الحديث من الفقه أن النكاح من سنن الإسلام، وأنه لا رهبانية في شريعتنا، وأن ‏من ترك النكاح رغبة عن سنة محمد عليه السلام فهو مذموم مبتدع ... وفيه الاقتداء بالأئمة في العبادة، ‏والبحث عن أحوالهم وسيرهم في الليل والنهار، وأنه لا يجب أن يتعدى طرق الأئمة الذي وضعهم الله ليقتدى ‏بهم في الدين والعبادة، وأنه من أراد الزيادة على سيرهم فهو مفسد، فإن الأخذ بالتوسط والقصد في العبادة ‏أولى حتى لا يعجز عن شيء منها، ولا ينقطع دونها"‏ ‏.‏

 

المطلب الثاني: قراءة تاريخية في بعض الدعوات الوسطية: ‏

‏ لا يمكننا ونحن بصدد استقراء تاريخي لبعض الدعوات التي قامت منهجيتها على الوسطية والاستقامة، إلا ‏أن نقف على مرجع هذه الدعوات من حيث منهجيتها ومعتقدها ومسلكها وطريقتها. ‏

‏ والأصل الذي تستند عليه هذه الدعوات قائم على بعض الأحاديث التي تمثل منهاج النبوة في الدعوة ‏والحق والهدى، يجمعها حديث واحد هو حديث الافتراق، وهذا الحديث مشهور عند العلماء من حيث حفظه ‏وتدوينه وجمعه وشرحه والتعليق عليه، وهو مروي من طرق متعددة وألفاظ متقاربة فيها زيادات تمثل الفيصل ‏في أوصاف الفرقة الناجية التي تمثل منهج الوسط والاعتدال، ولا يسع الباحث الوقوف على طرق هذا ‏الحديث والبحث فيه، فسياق هذا المطلب يحكمنا بأن نوجز القول ولا نفصل إلا بالقدر الذي يصب في ‏مصلحة البحث، وبناء على ذلك نقرر أن حديث الافتراق رواه جمع من أصحاب النبي ‏r‏ والكل متفق على ‏أصل متنه إلا أن هناك زيادات مؤثرة تظهر أوصاف الفرقة الناجية، ولذلك سنقتصر في الأصل على رواية أبي ‏هريرة ثم نذكر الزيادات من الروايات الأخرى، وحديث أبي هريرة أخرجه جمع من الأئمة، فقد رواه أبو داود ‏والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وغيرهم، ونصه أن أبا هريرة ‏t‏ قال: قال رسول الله ‏r‏: " ‏افترقت اليهود على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو ثنتين ـ ‏وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"‏ ، وجاء في رواية معاوية وعوف بن مالك: " كلها في ‏النار إلا واحدة، وهي الجماعة"‏ ، وجاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: " ما أنا عليه ‏وأصحابي"‏ ‏. ‏

‏ ولا شك أن مقتضى هذا الحديث برواياته المتعددة ينطبق على الجيل الأول الذي تربي في أحضان النبوة ‏وصنع على عينها، وزكاه القرآن والسنة النبوية؛ ليكون منهجهم مسلكاً وطريقاً يقتدي به من خلفهم، كما ‏دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية، منها قوله تعالى: ‏)‏ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ ‏اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ ‏الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏ ‏ ، وقوله تعالى: ‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏ ‏ ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ‏ثم الذين يلونهم "‏ ، ووجه الارتباط بين هذه النصوص في القرآن والسنة، وبين وصف الجيل الأول من ‏الصحابة وأتباعهم بمنهج الوسطية والاعتدال أن الله عز وجل وصف هذه الأمة، بوصفين يستلزم أحدهما ‏الآخر وجوداً وعدماً، الأول جاء في قوله تعالى: ‏)‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ ‏عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ‏(‏ ‏ ، والثاني جاء في قوله تعالى: ‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ ‏عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ‏(‏ ‏ ، فالخيرية تقتضي أن تكون الأمة متصفة بصفة الوسطية، وهو ‏الذي يدل عليه وصف الجعل في الآية الثانية، ولذلك حين ننظر في حال أصحاب النبي ‏r، فنجدهم قد حققوا ‏هذا الوصف، فتحققت بهم أكمل صورة يمكن أن يحققها البشر، واستطاعت أن تحفظ للإسلام قوته ومكانته، ‏بل وأن تزيد من توسعه وانتشاره، فأضحوا أمة حاكمة مسيطرة بهديها وقرآنها، فتمثلوه منهجاً وواقعاً ، ‏وسار الأتباع على نهجهم إلا أن الملاحظ أن خيرية الصحابة كانت في إطار جمعي، أما خيرية التابعين وأتباعهم ‏كانت على سبيل الانفراد؛ كون كثير من البدع والمحدثات ظهرت في جيل التابعين وتابعيهم، ووصف الجيل ‏بأكمله بالخيرية يستلزم مدح أهل البدع وما أحدثه، وهذا لا يصح، وقد جاءت آثار كثيرة تصب في هذا ‏المعنى، ومنها ما قاله أبو حاتم الرازي: " العلم عندنا ما كان عن الله تعالى، من كتاب ناطق، ناسخ غير ‏منسوخ، وما صحت الأخبار عن رسول الله ‏r‏ مما لا معارض له، وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا ‏عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج عن اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين، ‏فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل: أيوب السختياني، وحماد بن زيد، وسفيان، ومالك بن أنس، والأوزاعي، ‏والحسن بن صالح، ثم من بعد، ما لم يوجد عن أمثالهم، فعن مثل: عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، ‏وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن آدم، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم: محمد بن إدريس ‏الشافعي، ويزيد بن هارون، والحميدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وأبي عبيد: القاسم بن ‏سلام"‏ ‏. ‏

‏ وإذا انتقلنا إلى مراحل تاريخية أخرى نقف على نماذج كثيرة جداً من الدعوات التي اتصفت بصفة الوسطية ‏ومنهج الاعتدال، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى أن هناك من جمع جهود العلماء في الدفاع عن هدي ‏النبوة والصحابة دعوة ومنهجاً، ونحيل في هذا الباب إلى كتاب الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي ( ‏المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية )، حيث تتبع فيه هذه الجهود العلمية التي تمثل في حقيقتها ‏منهجاً دعوياً وعلمياً يهتدي به من خلفهم، إلا أننا في المقابل لا ينبغي أن نغفل الحديث عن دعوات كان لها ‏الأثر البالغ في الدفاع عن الحق وتبليغه للناس، وتمثل منهج السلف عقيدة ومسلكاً، هي دعوة شيخ الإسلام ‏ابن تيمية في القرن السابع والثامن الهجريين، ودعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في القرن الثالث عشر ‏الهجري، ودعوة الأئمة المجتهدين أهل السنة في اليمن، وحري بنا أن نقف قليلاً مع هذه الدعوات كونها ‏تشكل مفصلاً رئيساً من مفاصل دعوة أهل السنة والجماعة وكانت بحق دعوات وسطية لا إفراط فيها ولا ‏تفريط، إلا أن الفارق بين هذه الدعوات أن دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية ومجتهدي اليمن يغلب عليها الجانب ‏العلمي، بينما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يغلب عليها الجانب الحركي. ‏

أولاً: دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية: ‏

‏ كان ظهور ابن تيمية في عصرٍ ساد فيه ركام المنهج الفلسفي والتأويل الكلامي والشطح الصوفي حتى ‏غلب على ظن كثير من المسلمين أنها تمثل دين الإسلام وهديه، وهذا مرجعه بطبيعة الحال الجهل بمنهاج النبوة ‏وهدي السلف الأول، وبحكم نشأة شيخ الإسلام العلمية المستقيمة فقد وقف على حال الأمة في عصره حيث ‏انتشرت البدع والمحدثات ومناهج أهل الضلال، ومسالك أهل التقليد وتحكيم آراء الرجال، ولذلك اتخذ ‏لنفسه منهجاً تجديدياً يُحيي من خلاله منهاج النبوة في الدعوة والاستقامة على الحق، ولقد أوتي ـ رحمه الله ‏ـ قوة في الحوار والجدال مع المخالفين بسبب تعمقه في تتبع مناهجهم، والوقوف على انحرافاتهم العقدية ‏والمنهجية، واستطاع من خلال ما ألَّفه ووضعه من مصنفات وفتاوى ورسائل في تقرير منهج السلف أن يعيد ‏الهيبة والمكانة لهذا المنهج، ولقد بذل جهوداً عظيمة في إعادة الاعتبار لنصوص الوحي، حيث وجد فيها ضالته ‏وعلم علم اليقين أن وحدة الأمة إنما تكون باتباع الكتاب والسنة وهما يمثلان منهج النبوة الذي حث عليه ‏النبي ‏r‏ وأصحابه ‏y، جاعلاً في المقابل العقل تابعاً لمقصد النص، ومظهراً بجلاء أن صحيح المنقول لا يخالف ‏صريح المعقول، وبذلك استطاع أن يقضي على ذلك النزاع الذي بقي دهوراً ما بين العقل والنقل، وأثبت أن ‏العقل الفطري لا يمكن أن يخالف الوحي الإلهي، أما العقل الفلسفي فليس عنده القدرة على فهم نصوص ‏الوحي بعد أن اجتالته نظريات الفلاسفة والمتكلمين، وقليل من يسلم منها وإن رام التخلص ‏. ‏

‏ لقد كان لمفهوم الوسطية عند شيخ الإسلام ابن تيمية مجال واسع، ظهر ذلك من خلال ما رقمه بقلمه من ‏تأصيلات وفتاوى في إطار تصحيح المفاهيم، يقول ـ رحمه الله ـ مقرراً قاعدة الوسطية: "دين الله وسط بين ‏الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما ‏إفراط فيه، وإما تفريط فيه "‏ ، وقال تحت قاعدة: ( الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور): " ‏الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور، في أغلب الناس، مثل تقابلهم في بعض الأفعال، يتخذها بعضهم ‏ديناً واجباً، أو مستحباً، أو مأموراً به في الجملة. وبعضهم يعتقدها حراماً مكروهاً، أو محرماً، أو منهياً عنه في ‏الجملة "‏ ‏. وبهذا التأصيل المنضبط والتطبيق المقيد بالمنهج الوسط المستقيم أصبح ابن تيمية إماماً ومرجعاً ‏لكثير من طوائف الأمة حتى من لم يوافقه في كثير من تقريراته، وأصبحت مؤلفاته معيناً عذباً سائغاً لعلماء ‏ودعاة الصحوة المباركة.‏

ثانياً: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ‏

‏ تشكل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحركته الإصلاحية التجديدية مفصلاً تاريخياً مهماً في تاريخ ‏دعوات الموحدين، وكانت شخصية الشيخ مثار جدل عند الكثير، ودارت حولها كثير من النقاشات العلمية ‏والفكرية، فقد أثيرت حوله كثير من الشبهات التي تشوه صورته عند كثير من الناس، ولا شك أن المنصف ‏يدرك بعد الوقوف على البينات والبراهين أن الإمام ـ رحمه الله ـ كان داعية إلى الحق قاصداً تبليغ التوحيد، ‏وتجريد العقيدة مما شابها من أدران الشرك والوثنية، ولقد كان ظهوره " في عصر استحكمت فيه غربة ‏الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع والخرافات، وعبادة الأنبياء والصالحين والأشجار والأحجار، وقل ‏من يصدع بالحق ويشرح للناس حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ويحذرهم من أنواع ‏الشرك المنافية لدين الإسلام، فقام هذا الإمام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بالدعوة إلى الله ‏سبحانه بقلمه ولسانه وأوضح للناس حقيقة ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام وما ألصقه به أهل الجهل ‏والضلال وهو برئ منه من الشرك والبدع والخرافات، وأوذي في ذلك أذى كثيراً من الجهال وأدعياء العلم ‏ومن علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.. فصبر رحمه الله ‏على ذلك واستمر في الدعوة والبيان وإيضاح الحق بأنواع الأدلة من الكتاب والسنة وشرح حال سلف ‏الأمة.. "‏ ‏.وبذلك ثبتت دعوته ومنهجه أمام أعاصير الباطل التي ووجهت بها، وانتشرت في أصقاع الأرض ‏ودان بها ملايين البشر، وحملها آلاف العلماء والدعاة وطلبة العلم، وهي اليوم أعتى قلعة يتحصن بها الحق ‏وأهله رغم ما يشنه أعداؤها من حروب مدمرة ضدها، ولكن صدق الله تعالى: ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ‏ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ....) الآية. ‏

ثالثاً: دعوة الأئمة المجتهدين في اليمن:‏

‏ وأعني بها الدعوة السلفية التي حملها مجددو ومجتهدواليمن الكبار، الأئمة محمد بن إبراهيم الوزير ومحمد بن ‏إسماعيل الأمير ومحمد بن علي الشوكاني ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم ممن أتى بعدهم من علماء اليمن ‏وغيرها، هذه الدعوة تميزت بالوسطية والاعتدال والاستقامة على منهاج الصحابة رضي الله عنهم في جميع ‏جوانبها العلمية والعملية وفي جوانب العقيدة والفقه والأصول، وهي سابقة على دعوة الشيخ محمد بن عبد ‏الوهاب ومعاصرة لها في نفس الوقت وموافقة لها في الأصل والمنهج العلمي، وإن اختلفت بعض الشيء في ‏الأسلوب العملي والحركي حيث لم تحظَ بسلطة تقوم بها كما حصل لدعوة الشيخ محمد رحم الله الجميع، غير ‏أن تراثها العلمي أصبح من أعظم الزاد الذي يتزود به دعاة السنة وعلماؤهم وأصبحت مؤلفات أئمتها مناهج ‏علمية تُدرَّس في جامعات ومدارس ومراكز أهل السنة في مشارق الأرض ومغاربها، وفيها تتجلى الوسطية ‏والاعتدال فهماً وتطبيقاً، غير أن نصيب هذه المدرسة من العناية أقل بكثير من نصيب دعوة الشيخ محمد بن ‏عبدالوهاب، وذلك بمقدار ما كان حظها من النقد والأذى أقل مما تواجه به الدعوة الوهابية.‏

‏والدارس لهذه الدعوات الثلاث وغيرها من دعوات أهل السنة أتباع السلف الصالح سيجد أنها كبيرة ‏الشبه عظيمة الصلة متشابكة الأواصر، وأنها القاعدة الفكرية والنظرية للصحوة المباركة بفصائلها السنية ‏السلفية بل وغير السلفية.‏

 

المطلب الثالث:قراءة في الدعوات الوسطية في واقعنا المعاصر: ‏

‏ شهد النصف الثاني من القرن الماضي صحوة إسلامية مباركة على جميع الأصعدة الفكرية والمنهجية، وكان ‏للواقع المرير الذي عاشته الأمة بسبب التخلف والجهل والاحتلال، ودعوات التغريب والحداثة أثر في محاولة ‏التجديد عند كثير من مفكري الأمة ونخبها، وكانت الوجهة متغايرة ومختلفة، فبعضهم اتجه نحو الغرب أو ‏الشرق يستلهم تجاربه في النهضة، فآلت الأمور إلى دعوات إلحادية علمانية، جعلت المسلم بعيداً عن دينه ‏ودعوته لم يبق له إلا الاسم، كما هو حال كثير ممن عاش في دول الغرب ودرس فيها، فعاد ممسوخاً ممثلاً ‏لعقلية الغرب ومنهجه ظاناً أن الحل الأمثل يكون في تقليد الغرب في حضارته، وهذا لا شك كان له أثره في ‏دفع كثير من علماء الأمة الغيورين لمحاولة بعث تعاليم الإسلام من جديد وإحياء دعوته من خلال تبني منهجه ‏ليكون مسلكاً في الحياة، وبالفعل قامت دعوات غرضها إحياء الإسلام عقيدة وشريعة في نفوس الناس، ‏والخروج بهم من ذلكم الحال الذي جعلهم في دائرة الاستتباع للغرب، إلا أن هذه الدعوات كانت متفاوتة في ‏منهجيتها، ومن المهم في سياق بحثنا أن ننبه على تلكم الدعوات التي اتخذت فهم السلف عقيدة ومنهجاً، ‏وجعلت الوسطية لها دعوة وطريقاً، وكان لعلماء الدعوة النجدية أثر بالغ في تصحيح التوحيد وتهذيب العقيدة ‏مما شابها من شوائب الشرك والمحدثات، ولم يكن أثرهم قاصراً على الجزيرة العربية بل كان لهم الأثر في مواطن ‏أخرى، ونذكر على سبيل المثال بعضاً من أعلام الدعوة السلفية في العالم الإسلامي، ففي مصر كان هناك ‏الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي، وفي الشام كان الشيخ محمد ‏جمال الدين القاسمي، والشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ محمد بهجت البيطار وفي العراق الشيخ محمود ‏شكري الآلوسي، وعدد من أولاده وأحفاده وغيرهم، وفي اليمن محمد بن سالم البيحاني ومحمد بن علي بافضل ‏وعدد غير قليل في صنعاء وما حولها من أتباع مدرسة اليمن السنية السلفية وممن تأثروا بالدعوة النجدية، ‏وهكذا في بقية أقطار العالم الإسلامي.‏

‏ثم جاء عصر الدعوة المعاصرة بجماعاتها وجمعياتها ومنظماتها الدعوية، وكثرت مسمياتها واختلفت مناهجها ‏وكلها تدعي السلفية والسنية وأتباع منهج الصحابة ‏y، ولكن كثيراً من تلك الدعوات قد شابت مناهجها ‏بأصول وقواعد ومفردات مأخوذة عن غير المنهج السلفي، أو أنها قد تركت وتنكبت لأصول وقواعد ‏ومفردات مهمة من صميم ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، وبذلك وقعت في شيء من ‏الإفراط أو التفريط ومن الغلو والجفاء أحياناً في أحد الطرفين وأحياناً قد تجمع الطرفين جميعاً، بحيث تقع في ‏غلو في جانب وفي جفاء وتفريط في جانب آخر.‏

وعلى الرغم من ذلك بقيت جماعات أخرى على ذلك المنهج الأصيل والصراط المستقيم سالمة من الانحراف ‏عنه والوقوع فيما يناقضه، لعل بيننا من يمثل تلك الجماعات أو أكثرها وقد جآؤوا لحضور هذا المؤتمر لتأصيل ‏الوسطية وتحديدها والتعرف على ملامحها ووضع الضمانات لاستمرارها واستمرار السير عليها والتحذير من ‏خوارمها ووسائل الخروج عنها. ‏

 

المبحث الثاني

الوسطية: كليات وقواعد

‏ تمثل الوسطية مفتاحاً للصراط المستقيم؛ لأن الصراط المستقيم سبيل بين سبيلين منحرفين، فكان مفتاح ‏الاستقامة معرفة حقيقة الوسطية التي يسلم العبد بمعرفتها من الانحراف عن الصراط السوي، ويدخل إذا تحقق ‏بها في صراط الأمة الوسط والفرقة الوسط، فمعرفة الوسطية هي معرفة الصراط المستقيم الذي أمر العبد أن ‏يسأل الله إياه كل يوم بضع عشرة مرة في ركعات الفريضة، وهو أوجب دعاء وأنفعه وأعظمه، وكل ما يتعلق ‏بالصراط المستقيم وضرورة الدعاء به يصدق على الوسطية، وتعتبر صفة من أعظم صفاته، من هنا كانت ‏الوسطية من أعظم خصائص المنهج السلفي الذي يتمسك بأصول السلف وفهمهم للكتاب والسنة، وهذا قيد ‏معتبر في التعامل مع نصوص الشرع، وكون الوسطية من خصائص هذا المنهج أن أمة الإسلام هي الأمة ‏الوسط كما صرح بذلك الكتاب ، وقد نبهنا فيما مضى إلى أن السلف هم خير هذه الأمة منهجاً وطريقة، ‏لذلك من رام الوسطية والاعتدال فليكن على منهج السلف في العقيدة والعمل، وبناء على ذلك وبعد وضوح ‏المفهوم كان لزاماً على الباحث أن يبين قواعد وكليات الوسطية التي تشكل دلالاتها الرئيسة، وقد كان ‏للعلماء في هذا السياق جهود كبيرة في تحديد هذه القواعد والكليات فنصوا عليها، وإن لم تكن في إطارها ‏الكلي وإنما بثوها في ثنايا مؤلفاتهم ومصنفاتهم، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية عناية خاصة في التنبيه عليها، ‏نَثَرها في كتبه ومصنفاته إما من خلال قواعد يؤكد عليها، أو في ثنايا مضامين كلامه، والواقع أن جل من ‏صنف في هذا الباب كان عالة عليه في ذلك، وإنما أظهر ذلك رحمه الله من خلال بحثه العميق في نصوص ‏الشرع ومحاولته استنطاقها وجعلها مرجعاً في كل قاعدة وكلية من كليات الدين، وليس ذلك غريباً عليه، فإن ‏الذي يطلع على كلامه عن قرب يدرك عظم اهتمامه بنصوص الوحي ومقاصدها الكلية، فيمكننا أن نقرر في ‏هذا السياق أن شيخ الإسلام أعاد الاعتبار من خلال ما رسمه إلى نصوص الوحي والانطلاق منها في إطار ‏منهجية الاتباع والاقتداء، وعوداً إلى موضوع الوسطية، فإن هناك جملة من القواعد والكليات التي نطق بها ‏مفهوم الوسطية، سنجعلها في ثنايا هذا المبحث.‏

 

المطلب الأول: الوسطية في أبواب الاعتقاد: ‏

لقد كان من مقاصد دين الإسلام تصحيح العقيدة وتجريد التوحيد لله عز وجل، والناظر في نصوص الكتاب ‏والسنة وأقوال أهل العلم يدرك جلياً عظم هذا المقصد، ولذلك تجد العلماء يؤكدون عليه من خلال ‏تقريراتهم، آخذين بعين الاعتبار مقاصد الوحي الإلهي، ومن الآيات المركزية في هذا الباب قوله تعالى: ‏)‏ وَمَا ‏خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏ ‏ ، وقوله: ‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا ‏الطَّاغُوتَ ‏(‏ ‏ ‏ وهناك من الآيات الأخر التي تصب في نفس القصد، ولا ننسى أن ننبه على أن الآيات ‏جاءت لتصحيح ذلكم الواقع الذي كان قبل البعثة حيث كان الشرك والانحراف متغلغلاً في كل جوانب ‏الحياة، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله ‏r‏ قال ذات يوم في ‏خطبته: " إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبداً، حلال. وإني خلقت ‏عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن ‏يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل ‏الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء. تقرؤه نائماً ‏ويقظان..."‏ ، فهذا الحديث ينبيك عن حال البسيطة قبل مبعث النبي ‏r، ولذلك لا غرابة بعد ذلك أن ‏نجد القرآن المكي يخصص للتوحيد مساحة كبيرة جداً، وتمثلها عليه الصلاة والسلام في سيرته ودعوته فبقي ‏يدعو إلى التوحيد كمقصد أكبر في العهد المكي ثلاثة عشر عاماً، يقول الشاطبي مقرراً هذا المقصد العظيم: " ‏المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد ‏لله اضطراراً "‏ ‏. ‏

‏ إلا أنه وبعد انقضاء خير القرون اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن ‏المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط ‏وبين التفريط والتقصير، وقد سلم الله من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ‏ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط، وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم ‏الصحابة ‏y‏ ‏ ‏.‏

‏ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذه الفرقة الناجية‏:‏ أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ‏ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم ‏يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن ‏مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏.‏ ولا جفوا عنهم كما ‏جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، ‏وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا‏.‏ بل المؤمنون آمنوا برسل ‏الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، ‏كما قال تعالى‏: ‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ ‏دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ ‏وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏ ‏.ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في ‏‏المسيح‏ ‏فلم يقولوا‏: ‏هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا ‏على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا‏:‏ هذا عبدالله ‏ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه‏.‏ وكذلك المؤمنون وسط في ‏شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته ‏اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله‏:‏ ‏)‏ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي ‏كَانُوا عَلَيْهَا ‏(‏ ‏ ، وبقوله: ‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا ‏وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ(‏ ‏ ، ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، ‏فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله‏:‏ ‏)‏ ‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ‏( ، قال عدي بن حاتم ‏t‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ما ‏عبدوهم‏؟‏ قال‏:‏"‏ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال ‏فأطاعوهم‏"‏‏.‏ والمؤمنون قالوا‏:‏ ‏لله الخلق والأمر‏‏ فكما لا يخلق غيره لايأمر غيره‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا‏:‏ ‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏ ‏ ‏ ... وهكذا أهل ‏السنة والجماعة في الفرق‏.‏ فهم في ‏باب أسماء الله وآياته وصفاته‏ وسط بين ‏‏أهل التعطيل‏‏ ‏الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه ‏بالعدم والموات، وبين ‏‏أهل التمثيل‏‏ الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات‏.‏ فيؤمن ‏أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله ‏r، من غير تحريف ولا ‏تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل‏.‏ وهم في ‏‏باب خلقه وأمره‏ وسط بين المكذبين بقدرة الله، ‏الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله ‏الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب ‏والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا‏: ‏)‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ ‏شَيْءٍ ‏(‏ ‏ ‏.فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير‏.‏ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب ‏قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن ‏إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات‏.‏ ويؤمنون أن العبد له قدرة ‏ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أُكره على خلاف اختياره، ‏والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ‏ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله‏.‏ وهم في ‏‏‏باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد‏ وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من ‏المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي ‏r‏ وبين ‏المرجئة الذين يقولون‏:‏ إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين ‏والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية‏.‏ فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم ‏بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، ‏بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي ‏r‏ ادخر شفاعته ‏لأهل الكبائر من أمته‏.‏ وهم أيضًا في ‏‏أصحاب رسول الله‏‏ ‏r‏ ورضي عنهم وسط بين الغالية، الذين يغالون ‏في علي ‏t‏ فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ‏ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، ‏وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب علي وعثمان ‏ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي ‏t‏ وإمامته‏.‏ وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون ‏بكتاب الله وسنة رسوله ‏r، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم ‏بإحسان‏ "‏ ‏. ‏

المطلب الثاني: الوسطية في أبواب العلم والعمل: ‏

‏ مقرر عند علماء الأصول أن العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً ومَدَح الله ورسوله أهلَه على الإطلاق هو ‏العلم الباعث على العمل الذي لا يدع صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، ‏الحامل على قوانينه طوعاً أو كرهاً ، وهذه القاعدة دلت عليها كثير من النصوص الشرعية والآثار ‏السلفية، من ذلك قوله تعالى: ‏)‏ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ ‏هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏ ‏ ، وقوله: ‏)‏ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ‏الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ‏ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏ ‏ ، وقوله: ‏)‏ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ‏الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏ ‏ ، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف ما يراعي هذه القاعدة، فمن ذلك ما ‏قاله الحسن: " الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل "، وقال علي ‏t‏: " يا حملة العلم ‏اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله "‏ ، وما سواها كثير، ومن تلكم القواعد كذلك ‏أن كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في ‏المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل. أما أن العمل المناقض باطل، فظاهر، فإن ‏المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها ‏جلب مصلحة ولا درء مفسدة، وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، بل يمكن ‏القول إن العمل المخالف للشرع في نفسه مفسدة؛ لأنه مخالف أولاً، ولأنه منهي عنه ثانياً، ونهي الشارع إنما ‏توجه لدفع المفاسد ودرءها، وهذا الذي عمل عملاً مخالفاً لقصد الشارع وأمره قد قارف مفسدة ظاهرة. قال ‏شيخ الإسلام ابن تيمية مقرراً هذه القاعدة: " والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق ‏شرعي، فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما ‏جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما، وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين ‏بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في ‏القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته.‏

‏ وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي؛ فإن هذا فيه باطل كثير وكثير ‏من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء ‏منحرفون إلى اليهودية الباطلة، والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء منحرفون إلى ‏النصرانية الباطلة؛ فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم ‏بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول ‏r‏ فيبقون في فساد من جهة ‏العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء. وتقدح كل ‏طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول، والرسول ليس ما جاء به موافقاً لما قال هؤلاء ولا هؤلاء: ‏)‏ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏ ‏ ، وما كان ‏رسول الله ‏r‏ ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل ‏العبادة والتصوف، بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة، وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد ‏النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولاتزكية للنفس، وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة ‏بمجرده يحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث، وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس ‏والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم، لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما ‏بعث الله به الرسول، ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمداً ‏r‏ إن لم يعرف ذلك ‏من جهته، وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته، ولا يحصل ‏التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى: ‏)‏ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ‏(‏ ‏ ‏ "‏ ‏.‏

المطلب الثالث: الوسطية في الحكم على الرجال ونقد المخالف: ‏

‏ هذا المطلب يكاد يكون من أظهر المطالب المتعلقة بمفهوم الوسطية؛ لكون الحاجة ماسة إليه في واقعنا ‏المعاصر، فقد اختلفت الآراء وتغايرت النفوس في الحكم على المخالف، وظهر الإفراط والتفريط، وتلاعبت ‏الأهواء ورغبات النفوس بأصحابها في مواطن كان ينبغي فيها التغافر وتجاوز الهنات، ولعل ما أصاب الدعوة ‏الإسلامية قبل سنوات من تهارج وفوضى في موضوعات الخلاف أثر تأثيراً كبيراً على مخرجاتها، فأقعدها ‏وعطلها عن تحقيق كثير من مقاصدها، وكان يسع أطراف الخلاف أن يرجعوا فيه إلى أهله ممن أمر الله عز ‏وجل ورسوله ‏r‏ بالرجوع إليهم، وقبل ذلك كان يلزمهم الوقوف على تلكم النصوص الظاهرة التي تؤكد ‏على العدل تارة والإنصاف تارة أخرى دون أن تغفل نصوص أخرى دالة على منهجية الموازنة، فهي منهجية ‏قرآنية أصيلة، وعند الوقوف على مناهج العلماء من المتقدمين والمتأخرين يدرك الباحث عظم إنصافهم وعدلهم ‏مع المخالفين لهم في الأصول، فضلاً عن الفروع، فما بالك بموقفهم ممن يخالفهم في الفروع التي يسع فيها ‏الخلاف، ويكون دائراً بين الراجح والمرجوح والكل منتسب إلى منهج أهل السنة والجماعة ودعوة السلف، ‏فما أحوجنا إلى فقه الخلاف ومعرفة قواعده، ولاشك أن البحث في مفهوم الوسطية يدفعنا دفعاً إلى بيان تلكم ‏القواعد ودراسة فقه الخلاف وإن كان على سبيل الإجمال لا التفصيل فلهذا الأخير موضع آخر. ولا ريب أن ‏الدعاة في أشد الحاجة إلى معرفة المنهج النقدي عند أهل السنة؛ وذلك لأنهم أمام النقد والتصحيح والمراجعة ‏للسلبيات والانحرافات ثلاثة أصناف: الأول: فريق غلبت عليه المسامحة، والتنازلات عن التصحيح لقضايا ‏مهمة، لا يمكن أن يصلح حال المسلمين إلا بإصلاحها، وأخذ في التنازل عن طلب إصلاحها، بل وانقطع عن ‏ذلك، وأخذ ينفر ممن يريد التصحيح، وأصبح همه التنازل حتى عن مميزاته التي كان يتميز بها، وكسب ‏أصحاب المخالفات عن طريق التنازلات، وليس بعجيب أن ينفر هذا الفريق من النقد والتصحيح. الثاني: ‏فريق مقابل لا يتسامح في شيء، ويتناسى أن أصحاب رسول الله ‏r‏ قد وقع بينهم خلاف في بعض الأمور مع ‏محافظتهم على صحة الاعتقاد، ولكن هذا الفريق لا يريد أن يقع بين الدعاة تفاوت في مسائل الاجتهاد، وهو ‏بلا شك يطلب المستحيل. والثالث: وسط بين الفريقين لا يتسامح في تغيير منهج الاعتقاد، ويحمل الناس على ‏الاعتقاد الصحيح عن طريق التربية والتعليم، وهدفه تحقيق صحة الاعتقاد على ما كان عليه النبي ‏r، وفي ‏الوقت نفسه يقر بوقوع الخلاف في مسائل الاجتهاد، ويحاول تصحيحها بغير شطط، ولا بأس باستمرار ‏الخلاف فيها مع استمرار طلب الصواب حسب الإمكان والمناصحة للمخالف، ولا يؤثر بقاء مسائل الخلاف ‏في مسيرة الدعوة، وفي بناء المجتمع الإسلامي ‏. ‏

‏ وبناء على ذلك لا بد من القول تقريراً إنه ليس كل خلاف يعد مذموماً، فهناك خلاف أملاه الهوى قد ‏يكون وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر ‏بالفهم أو العلم أو الفقه. وهذا النوع مذموم بكل أشكاله، ومختلف صوره؛ لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص ‏على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطية الشيطان إلى الانحراف والضلال وقد يفضي بصاحبه إلى ‏الكفر، قال تعالى: ‏)‏ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏ ‏ ، وبالهوى جانَبَ العدل من جانَبَهُ من الظالمين، قال تعالى: ‏)‏ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ ‏تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏ ‏ ‏... الخ ما يتعلق بآثار الهوى وثماره، وهناك خلاف أملاه الحق ‏ودفع إليه العلم، واقتضاه العقل وفرضه الإيمان، كخلاف أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق، وخلاف ‏أهل السنة لأهل البدعة والحدث في الدين، فهذا النوع من الخلاف لا يعد مذموماً بل يعتبر محموداً، وهناك ‏خلاف يتردد بين المدح والذم، ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية تتردد أحكامها بين ‏احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعض بمرجحات وأسباب، وهذا النوع من الخلاف يكون متردداً بين ‏الراجح والمرجوح، والخطأ والصواب، إلا أنه قد يعتبر مزلة أقدام، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، ‏والعلم بالظن، والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم إليها في ‏الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلا تحول إلى تنازع وشقاق وفشل، وهبط المتخلفان فيه عن ‏مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرنه، ولا يخفى أن أصل هذا الخلاف يعد ‏سائغاً، وهو الذي تنطبق عليه قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف إذا كان في دائرة الاجتهاد‏ ‏.‏

‏ إن الأصل الذي تنطلق منه قاعدة الوسطية في هذا الباب يتضمن جملة من النصوص الشرعية ذات المقاصد ‏المرعية، منها قوله تعالى: ‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ ‏وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ ‏بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏ ‏ ، وقوله تعالى: ‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ‏شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏ ‏ ، وقوله تعالى: ‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ‏(‏ ‏ ، فهذه نصوص ظاهرة المعنى في التحلي ‏بالعدل والإنصاف وحسن الظن عند تقويم الآخرين سواء كانوا مخالفين في الأصول أو في الفروع، يقول شيخ ‏الإسلام ابن تيمية: " ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ‏ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من ‏الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع ‏يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قدحاً في ‏ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد ‏‏... ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ‏ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من ‏وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم"‏ ‏.‏

‏ ولا يخفى على طالب الحق أن المرء لا يمكن أن تتمحض فيه السنة، أو الخير، أو الهدى، فكل بني آدم خطاء ‏وخير الخطائين التوابون، لذلك لا بد في هذا السياق من مرجعية يهتدي بها المرء في الموازنة، وهي متحققة في ‏المنهجية القرآنية، والهداية النبوية، والآثار السلفية، قال تعالى: ‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ ‏إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ ‏سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏ ‏ ، فالآية جاءت في سياق ذم بني إسرائيل وموقفهم من ‏الدعوة الإسلامية، إلا أنه وفي خضم بيان المساوئ بين الله أن منهم من يلتزم أداء الأمانة وإرجاع الحقوق إلى ‏أهلها، وهذا دال على منهج الموازنة الحق الذي ينبغي أن يستظهره المسلم في تعامله مع المخالف، وسياق الآية ‏في التعامل مع أهل الكتاب وهم كفار بالنص والإجماع، فكيف بالتعامل مع المخالف من أهل الإسلام، أو من ‏أهل السنة. كما يدل على هذه المنهجية حديث حذيفة بن اليمان ‏t‏: " كان الناس يسألون رسول الله ‏r‏ ‏عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله ‏بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه ‏دخن). قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) "‏ ، فالحديث أثبت الخيرية ‏للبعض مع كونها اختلطت بالشر، وهذا يقتضي النظر إلى المخالف وفقاً لمنهج الموازنات الذي دلت عليه هذه ‏النصوص، إلا أن الأمر لا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بد من قيود، وقد نبه على ذلك كثير من أهل العلم، ‏ومنهج السلف في هذا الباب هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ، قال الحافظ الذهبي: " ونحب ‏السنة وأهلها، ونحب العالم، على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، ‏وإنما العبرة بكثرة المحاسن "‏ ، ونفس المعنى قرره ابن رجب في قواعده: " والمنصف من اغتفر قليل خطأ ‏المرء في كثير صوابه "‏ ‏.وهذا المنهج قد احتدم حوله النزاع وغلا فيه طرفان، طرف ينكره بإطلاق ويعتبره ‏منهجاً مبتدعاً، وآخر بالغ في إثباته وتوسع في تطبيقه حتى أذهب سطوة إنكار المنكر ونقْدَ من يستحق النقد، ‏وكلا الطرفين غير صواب، والحق التوسط في ذلك والإقتداء بالأئمة العلماء الذين أصلوا منهج النقد تنظيراً، ‏وأحسنوا فيه تطبيقاً، وهذا أمر لابد منه عندما نحاول أن نطبق منهج السلف في أي جانب من الجوانب، أن ‏ننظر إلى أقوالهم وتصرفاتهم في آن واحد حتى لا نغلط عليهم أو ننسب إليهم ما ليس من منهجهم، حيث أن ‏القصور في فهم المنهج يؤدي إلى ما يؤدي إليه الغلو والله الموفق.‏

 

‏ المبحث الثالث

معوقات وموانع الوسطية

‏ لا يخفى على كل متتبع للأحداث التاريخية والمعاصرة، والمطلع على النصوص الشرعية، وأقوال العلماء، ‏أنه ما من مجتمع تغيب عنه الوسطية والاعتدال والهدي النبوي إلا كان ذلك بسبب انتشار البدع والضلالات ‏والأهواء، حيث يصبح المتسنن غريباً في مجتمعه، بعد أن ألف ذلك المجتمع تلكم الأهواء والانحرافات، فأضحى ‏لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وهذه الحقيقة سجلها أقوالاً كثير من أسلافنا ـ ‏رحمهم الله ـ ‏: ‏

ـ قال حسان بن عطية المحاربي: " ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها ‏عليهم إلى يوم القيامة ".‏

ـ وقال ابن سيرين: " ما أحدث رجل بدعة فراجع سنة ".‏

ـ وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: " والله ما أعرف من أمة ‏محمد ‏r‏ شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً ".‏

ـ وعن أنس بن مالك ‏t‏ قال: " لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً، ‏قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذه النكراء ولم ‏يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ‏ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم، ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً ‏عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله ".‏

‏ وكلام هؤلاء الأخيار من السلف حول زمن لم يشهد استحكام غربة السنة وأهلها، فكيف لو رأوا أزمنة ‏تحولت فيها البدعة إلى سنة والسنة إلى بدعة، والله المستعان ‏.‏

‏ وبناء على ذلك فإن الباحث سيحاول الوقوف مع أبرز المعوقات والموانع التي تقف وراء غياب الوسطية ‏أو إضعافها في المجتمع الإسلامي المعاصر.‏

المطلب الأول: الجهل: ‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: ‏)‏ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏ ‏ ‏ "‏ ، وقد استقصى الدكتور عبد الرحمن اللويحق مظاهر الجهل في الأمة ‏وهي متعددة، أبرزها: الجهل بالكتاب والسنة، والجهل بمنهج السلف، والجهل بمقاصد الشريعة ، والذي ‏يقف على النصوص الشرعية يجد مساحة واسعة فيها تحدثت عن قيمة العلم ومكانة العلماء، ويقابلها ذم ‏الجهل وأهله، وهي أشهر من أن تساق في هذا الموضع، ولكن يكفيك أن نسوق حديثاً للنبي ‏r‏ يظهر كيفية ‏انتشار الجهل بين الناس وما يحدثه من آثار وخيمة في المجتمع المسلم، ومنها بطبيعة الحال غياب الوسطية ‏موضوع بحثنا، قال عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو ‏t‏: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ‏ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، ‏فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "‏ ‏. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: " قد يشكل على كثير من ‏الناس نصوص لا يفهمونها فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في ‏القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاء لما في الصدور ‏وبيانا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة حتى لا ‏يعرفون ما جاء به الرسول ‏r؛ إما أن لا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه فحينئذ ‏يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة "‏ ‏. وقال الشاطبي مبيناً سبب الانحراف والضلال والتفرق: " ‏وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ‏ذلك من راسخ في العلم. ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمى؟ ‏لأن رسول الله ‏r‏ وصفهم بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به ‏حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأن الفهم راجع إلى القلب، فإن لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وإنما ‏يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم، وما تقدم أيضاً من ‏قوله عليه السلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً..) "‏ ‏.‏

‏ وصورة الانحراف عن الوسطية في هذا الباب يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: " كثير من أهل البدع ‏مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، والممثلة يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون ‏كفر من خالفهم في ذلك، فيصير فيهم شَوْب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق، ولعل ‏أكثر هؤلاء المكفرين يكفر بالمقالة التي لا تفهم حقيقتها، ولا تعرف حجتها‏.‏ وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل ‏أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد ‏لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ‏ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًا مطلقًا، لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب ‏والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقر العلماء في ‏مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة، وبعض المتفقهة، ‏والمتصوفة، والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة ‏خارجة عن الكتاب والسنة‏.‏ وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به ‏الرسل عن الله، والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء، فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل، ويؤمن به، ‏ويبلغه، ويدعو إليه، ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع ‏الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله، غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف، ‏ولا متبعين لظن: من حديث ضعيف أو قياس فاسد ـ سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل ـ أو تقليد لمن لا ‏يجب إتباع قوله وعمله، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون إتباع ما جاءهم ‏من ربهم من الهدى "‏ ‏.‏

المطلب الثاني: الابتداع: ‏

‏ من الأصول المقررة في كتاب الله تعالى أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لتقرير التوحيد ونبذ الشرك ‏وتصحيح مفاهيم العقيدة، قال تعالى: ‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ‏( ، وكل دعوة لا ترتكز في غاياتها وأهدافها ومناهجها على هذين الأصلين فهي مخالفة لنهج المرسلين ‏وناقصة، ولا تؤتي ثمارها المرجوة فالقاعدة الأولى التي دلت عليها الآية: تعني تحقيق التوحيد والعقيدة ‏الصحيحة وطاعة الله تعالى واتباع شرعه، والقاعدة الثانية: تعني تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تؤول ‏إليه من الشرك، والكفر، والظلم، والفسق، والإعراض عن دين الله. ولذا تضمنت الدعوة إلى الله غايتين لا ‏تصح إلا بهما، وهما ركناها: الأول: تقرير الدين والعقيدة والشريعة، وتعلمها، وتعليمها، ونشرها، والعمل ‏بها. والثاني: حماية الدين والعقيدة والشريعة والدفاع عنها، وبيان ما يخالفها، وكل ذلك كان منهجاً قرآنياً، ‏وهدياً نبوياً سار عليه الأصحاب والأتباع ‏. ‏

‏ وبناء على ذلك فإن من أصول الإسلام الكبرى أن كل بدعة ضلالة، وهذا الأصل هو مقتضى قوله عليه ‏الصلاة والسلام كما روته عائشة رضي الله عنها: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"‏ ، وفي ‏رواية مسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "‏ ، وحديث العرباض بن سارية ‏t‏: " صلى بِنَا ‏رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ منها الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ منها ‏الْقُلُوبُ فقال قَائِلٌ يارَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا، فقال: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ ‏وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فإنه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ ‏الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ ‏بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "‏ ‏.‏

‏... قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على هذه الأحاديث: " وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ‏ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً، قال الله تعالى: ‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ ‏اللَّهُ ‏(‏ ‏ ، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أن يشرعه الله فقد ‏شرع من الدين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله ... ‏وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به المتقربون "‏ ، وانتهى رحمه الله ‏إلى تقرير مقتضى الحديث أن البدعة محرمة على عمومها بدلالة العموم الذي ورد في سياقه دون أن يكون ‏هناك ما يخصصه، وإذا أردنا أن نقرر ذلك وفقاً لمسلك المناطقة فإن الحديث جاء في إطار كلية موجبة، ‏والمعروف أن الكلية الموجبة موضوعها مستغرق ومحمولها غير مستغرق، بمعنى أن أفراد الموضوع داخلون ‏كلهم في حكم المحمول، وبهذا يتقرر أن البدع كلها ضلال، وإلا فإن الهدي النبوي كاف في بيان هذه القاعدة ‏العظيمة، وبهذا يتبين لنا أن صورة الانحراف عن الوسطية في هذا الباب ظاهرة في كونها على خلاف الهدي ‏النبوي في العلم والعمل، وكنا نبهنا على ذلك فيما مضى من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في تمييزه بين ‏الطريق الشرعي والطريقين المبتدعين، طريق أهل الكلام والرأي البدعي، وطريق أهل الرياضة والتصوف ‏والعبادة البدعية. ‏

المطلب الثالث: الغلو: ‏

‏ للتدين الحق مقياسان: مقياس الاستجابة لمطالب المنهج ومقتضياته، قال تعالى: ‏)‏ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ‏اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ‏(‏ ‏ ، ومقياس الطاقة والوسع، قال تعالى: ‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ ‏نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ‏(‏ ‏ ، والمقياسان مترابطان متكاملان، فالاستجابة للمنهج مشروطة بالقدرة في المجال ‏العملي، أما الغلو فهو منـزع مختلف، منزع شاذ لذينك المقياسين كليهما، مستدبر لهما جميعاً، إذ لايبرح ‏الغالي أن يند ـ في فهم الدين ـ عن القواعد العلمية المنهجية الهادية لطريقة التفكير، ولا يفتأ ـ عند الأخذ ‏العملي للدين ـ يحمل نفسه ما لا يطيق، فيسلك ـ من ثم ـ سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وإن حسنت نيته فإن ‏حسن النية لا يغني عن سداد المنهج، ولا يصح أن يكون بديلاً له. إن قوام الإسلام وعماده حقائق ثلاث: ‏الأولى: حقيقة العلو والعصمة في مصدر التلقي كتاب الله وسنة رسوله ‏r، ومن المقطوع به أنه لم يرد في ‏هذين المصدرين دعوة إلى الغلو، بل فيهما ما هو نقيض الغلو، أي الدعوة إلى التوسط، والنهي عن الغلو، قال ‏تعالى: ‏)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏(‏. الثانية: حقيقة وضوح المنهج، قال تعالى: ‏)‏ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى ‏اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏ ‏ ‏. والثالثة: حقيقة الاستقامة على ‏المنهج، قال تعالى: ‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ‏(‏ ‏ ، ومن المنهج أن نعلم: أن الغلو ‏شقوة وعنت، وأن الإسلام ما جاء لكي يشقي الناس، ولا يضيق عليهم بالعنت والشدة، بل جاء ليحقق ‏سعادتهم والتيسير عليهم ‏. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق ذم الغلو: " وأما في حديث أنس ‏t‏ من ‏قول النبي ‏r‏: ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ‏فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ففيه نهي النبي ‏r‏ عن التشدد في ‏الدين بالزيادة عن المشروع. والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب ‏والمستحب من العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه منزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعلل ذلك ‏بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من ‏الرهبانية المبتدعة. وفي هذا تنبيه على كراهة النبي ‏r‏ مثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان ‏كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين. وفيه أيضاً تنبيه على أن التشدد ‏على النفس ابتداء يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله، إما بالشرع، وإما بالقدر: فأما بالشرع: فمثل ما كان ‏النبي ‏r‏ يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم: كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه، ولما كانوا ‏يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد ‏النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب. وأما بالقدر: فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء ‏فيبتلى أيضاً بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، ومثل كثير من الموسوسين في الطهارة: إذا زادوا ‏على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء مشقة مضرة. وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث ‏موافق لما قدمناه في قوله تعالى: ‏)‏ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ‏(‏ ‏ ، من أن ذلك ‏يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال. والآصار ترجع إلى الإيجابات الشديدة، والأغلال هي ‏التحريمات الشديدة، فإن الإصر هو الثقل والشدة، وهذا شأن ما وجب، والغل يمنع المغلول من الانطلاق، ‏وهذا شأن المحظور. وعلى هذا دل قوله سبحانه: ‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا ‏تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏ ‏ ، وسبب نزولها مشهور"‏ ‏.‏

المطلب الرابع: ادعاء التيسير: ‏

‏ من المقاصد المرعية في الشريعة وقواعدها الكلية، مقصد وقاعدة التيسير ورفع الحرج، وقد دلت عليها ‏نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تمثل أصولاً لليسر في الإسلام، أما الكتاب ففي قوله تعالى: ‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ ‏الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ‏(‏ ‏ ، وقوله تعالى: ‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏ ‏ ، ‏وقوله تعالى: ‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ‏(‏ ‏ ، وقوله: ‏)‏ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏(‏ ‏ ، وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث أبي هريرة ‏t‏ عن النبي ‏r‏ قال: " إن الدين يسر وليس يشاد ‏الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا "‏ ، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " ما خير رسول الله ‏r‏ ‏بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "‏ ، فهذه نصوص ظاهرة المعنى جلية المقصد في تقرير قاعدة ‏التيسير ورفع الحرج في الشرع، قال الشاطبي: " اعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما: الخوف ‏من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد ‏عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة ‏الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال ‏شاغلاً عنها، وقاطعاً بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما.فأما ‏الأول: فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو ‏عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله ‏تعالى: ‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ‏(‏ ‏ ‏ إلى آخرها. فقد أخبرت ‏الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه... ‏والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشد من المشقة، أو حاد يسهل به ‏الصعب، أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت ‏تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نوراً وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك ‏المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره ... وجاء هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها ‏دائماً كثير. ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم ‏y، ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث ‏والاقتداء بعد الاجتهاد: كعمر، وعثمان، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن الزبير، ومن ‏التابعين: كعامر بن عبد قيس، وأويس، ومسروق، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والربيع بن خثيم، ‏وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش، وكمنصور بن زاذان، ويزيد بن هارون، وهشيم، ‏وزر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم في اتباع السنة والمحافظة عليها ‏ما هم "‏ ‏. ‏

‏ إلا أن هناك من رام التيسير ورفع الحرج من غير بابه، يزعم العناية بمقاصد الشريعة وروح الدين، ويدعي ‏أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، لو واجهتهم بمحكمات النصوص لفوا وداروا، وردوا صحيح ‏الحديث، وهم في حقيقة أمرهم معطلة النصوص الجزئية للقرآن والسنة، لا يعرفون صحيحاً من ضعيف، ‏تأولوا القرآن فأسرفوا، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وتمسكوا بالمتشابهات، وأعرضوا عن المحكمات، وهؤلاء ‏هم أدعياء التجديد، وهم في الواقع دعاة التغريب والتبديد ‏. ولو تأملنا مناط قولهم وحجته لما خرج عن ‏أمرين : الأول: النظر إلى المقاصد دون النصوص ، الثاني: التوسع في فهم خاصية التيسير ‏. وهما أصلان ‏يستند عليهما هؤلاء في التأصيل والتقعيد، وقد أثمرا مظاهر متعددة عكسته أقوالهم، وتنظيراتهم، واجتهاداتهم ‏فيما يزعمون، ومنها ‏: ‏

أولاً:اقتصارهم على القطعيات في الاستدلال، ورد الظنيات وإن كانت راجحة. ‏

ثانياً:اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي، فالنصوص يجب أن تفهم وتؤول على ضوء المقاصد. ‏

ثالثاً:الدعوة إلى الانسياق مع تطوير الشريعة بما يتلائم مع تطور الواقع، حتى وإن أفضى ذلك إلى تجاوز ‏النصوص القطعية تحقيقاً للمقاصد. ‏

رابعاً:تمسكهم بمقولة: حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله. ‏

خامساً:دعوتهم إلى تغيير بعض القواعد الأصولية كي تبدو الشريعة مواكبة للعصر ومسايرة للتطور. ‏

وأبرز الأمثلة التي تتمخض عن هذه المنهجية المتحللة: نفي وجود نظام حكم في الإسلام، والدعوة إلى إطلاق ‏الحريات العامة دون ضابط شرعي، وتحرير المرأة، وجواز الإمامة العظمى للمرأة، وإلغاء بعض الحدود بحجة ‏كونها صالحة لزمان التشريع دون غيره مما ينفي إطلاقيتها، وإباحة بعض المحرمات كفوائد البنوك الربوية، ‏والغناء، والمصافحة ، والاختلاط، وزواج المسلمة بالكتابي. ‏

والحق أن هذه المنهجية ليست إلا دعوى إلى التحلل من أحكام الشريعة باسم المقاصد والتيسير، وتفضي ‏إلى إبطال الشريعة ونصوصها بحجة أن غالب نصوصها ظنية، وجعل العقل حاكماً على الشرع لكونه قائماً ‏على أسس قطعية، والعجيب أنهم يستندون في منهجيتهم العرجاء هذه على كتابات ابن القيم والشاطبي بحجة ‏أنهم بحثوا المصلحة دون النظر إليها بمنظار الشريعة وضوابطها، وهي حجة عرية عن الدليل والبرهان، وقد ‏انبرى كثير من الباحثين إلى الرد على أرباب شريعة المقاصد والتحلل من الشريعة، فأتوا على قواعدهم ‏بالدحض والبطلان، ويكفينا اقتباساً ما قاله الشيخ مشهور حسن سلمان في مقدمة تحقيقه للموافقات؛ كونه ‏يمثل مستنداً يتكأ عليه هؤلاء في نشر باطلهم وانحرافهم، فيقول: " لابد من التنبيه على أن كثيراً من البعيدين ‏عن الجادة ، والمحاربين للدعوة السلفية يتعلقون بكلام للشاطبي في كتابه هذا، ويأتون به في معرض التجديد ‏والكلام على ما أصاب المسلمين من ركود وتخلف وجمود، ويخرجون بنتائج وأحكام عجيبة غريبة، ويمكن ‏تسمية صنيعهم هذا بالتلبيس المقلوب. فها هو مثلاً محمد عابد الجابري يذهب في مقالة له نشرت في مجلة ‏العربي بعنوان: ( رشدية عربية أم لاتينية ) إلى أن الشاطبي في كتابه الموافقات يعد عقلانياً، وها هو راشد ‏الغنوشي يحتج بكلام للشاطبي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية في مواطن كثيرة، وكأني به يقرر أن ‏الشاطبي اعتبر المصلحة هي أساس الشرع، وهذا ما يلبس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذا القاعدة ذات ‏البريق الجذاب ... "، ثم قال: " ولن أرد على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على ‏وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب ‏ إلى أن اشتراط القطع لثبوت ‏الأحكام الشرعية يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وإن قوله ( فيما كان لفظه عاماً لا يعني أن حكمه عام ‏أيضاً ) يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل ‏المثال فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية: كقطع السارق، وجلد الزاني أو رجمه، وقتل المرتد، وجلد شارب ‏الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: ( يبقى العام على عمومه ما لم يرد ‏دليل التخصيص ) "‏ ، وإذا كان ديدن هؤلاء التيسير والتخفيف على المكلفين، فلا شك أن التيسير ‏مقصد من مقاصد الشريعة كما دلت عليه نصوص الشريعة في غير موضع من مواضعها كتاباً وسنة، إلا أن ‏الإشكال يكمن في كيفية فهمنا للتيسير، ومدار هذا الفهم نصوص الشريعة ومقاصد الشارع منها وما دلت ‏عليه بظواهرها، ومن الخطأ البين أن يكون التيسير فيه مجاوزة لهذه النصوص؛ لأن الأخذ بالأيسر مع مصادمة ‏النصوص تحكيم للهوى على الأدلة فتكون الأدلة تابعة لا متبوعة، وهو ما يخالف الأصل القرآني: ‏)‏ يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ‏(‏ ‏ ، ثم ما وجه حصر التيسير بالتخفيف ورفع التكاليف ‏دون مراعاة مقتضيات النصوص ولوازمها، وكأن الشريعة بأوامرها ونواهيها جاءت مقيدة للمكلفين بالمشاق ‏غير المحتملة، ألا فليعلم دعاة التيسير والتخفيف، بل دعاة التحلل ـ جهلوا أم تجاهلوا ـ أن الشارع لم يقصد ‏في وضعه الشريعة المشقةَ بالناس، ولم يقصد كذلك رفع المشاق المعتادة عن الناس، وإنما قصد في التشريع ما ‏فيه مصلحة للعباد في الدنيا والآخرة، وهذه قد لا تحصل إلا بأعمال شاقة ـ محتملة قطعاً ـ كالحج والجهاد ‏وغيرهما، ذلك أن الشارع ـ كما ذكر ابن تيمية ـ إنما حرم الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا ‏بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة، فلا ينبغي النظر إلى ‏المقاصد والتيسير على أنها دائرة في إطار التخفيف ورفع التكاليف عن المكلف، وإنما المعيار تحقيق مصلحة ‏العباد في العاجل والآجل ‏. ‏

 

الخاتمة

‏ يقتضي المنهج العلمي من الباحث أن يقدم جملة ما توصل إليه من نتائج في ثنايا بحثه؛ لتكون خاتمة له ‏وخلاصة جهده في الموضوع المعني، وبناء على ذلك فإن أهم ما توصل إليه الباحث في هذه الدراسة ما يأتي: ‏

‏1-‏تعريف الوسطية بأنها: سلوك محمود – مادي أو معنوي – يعصم صاحبه من الانزلاق إلى طرفين متقابلين ‏‏– غالبا ً – أو متفاوتين تتجاذبهما رذيلتا الإفراط والتفريط, سواء في ميدان ديني أم دنيوي.‏

‏2-‏تعريف المقاصد بأنها: المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها, سواء أكانت تلك المعاني ‏حِكَما ًجزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية, وهي التي تجتمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ‏ومصلحة الإنسان في الدارين.‏

‏3-‏تعريف القاعدة المقاصدية بأنها ما يعبر به عن معنى عام مستفاد من أدلة الشريعة المختلفة، اتجهت إرادة ‏الشارع إلى إقامته من خلال ما يبنى عليه من أحكام .‏

‏4-‏الاطلاع على النصوص القرآنية الكثيرة التي تتحدث عن الوسطية، بالتصريح أو التلميح، والتعرف ‏على معانيها من خلال كلام الأئمة علماء التفسير وغيرهم، وأن الوسطية تعني أكثر من معنى في تلك ‏النصوص، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بـ(العدل) واختار الطبري أن المراد بالوسطية هنا الجزء ‏الذي هو بين الطرفين مثل ( وسط الدار ) .‏

‏5-‏الاطلاع على معنى الوسطية في نصوص السنة النبوية، وأنها تعني الاعتدال والتوسط بين الإفراط ‏والتفريط .‏

‏6-‏الاستقراء لتاريخ ثلاث من الدعوات التي اشتهرت بوسطيتها واعتدالها علماً وعملا ًودعوة، وهي دعوة ‏‏: شيخ الإسلام بن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والأئمة المجتهدين في اليمن، وتم التعريف ‏بإيجاز بمناهج هذه الدعوات وإبراز مظاهر الوسطية لديها، وأنها كانت على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ‏وصحابته وأهل السنة والأثر من سلف هذه الأمة.‏

‏7-‏انتشار أثر تلك الدعوات في العصر الحاضر، حيث سار عدد من العلماء في كثير من بقاع العالم ‏الإسلامي على نهجها، ونشروا مبادئها، وكوَّنوا مدارس في بلدانهم تقتفي أثرها، وتنهل من معينها.‏

‏8-‏إن الدعوات المعاصرة من منظمات وجماعات وجمعيات كلها تدَّعي الوسطية والاعتدال، غير أن بعضها ‏قد جنح إلى طرف التفريط أو الإفراط في جوانب من دعوته، وبعضها قد يجمع بين الطرفين المتناقضين بحيث ‏يفرِّط في جهة ويفرُط في أخرى، وهناك من سلمه الله من ذلك فثبت على منهج الوسطية ولزمه في كل أو جل ‏جوانب دعوته.‏

‏9-‏الوسطية مفتاح الصراط المستقيم، إذ حقيقة الصراط المستقيم أنه سبيل بين سبيلين منحرفين، فكانت ‏معرفة حقيقة الوسطية، والاستقامة عليها، ضمان للاستقامة عليه .‏

‏10-‏إن تحقيق معنى الوسطية التي ترشد إليها القواعد الكلية والمقاصد الشرعية، ضمان الاعتدال والتوسط في ‏أبواب الاعتقاد وأبواب العلم والعمل, وفي الحكم على الرجال ونقد المخالف, وهذا ما كان عليه أهل السنة ‏أتباع السلف الصالح في تلك الأبواب وغيرها، فهم وسط في فرق الأمة كما أن الأمة وسط في سائر الأمم.‏

‏11-‏ هناك معوقات وموانع تحول بين المرء وبين لزوم المنهج الوسط المأمور به والمحمود أصحابه هي: الجهل – ‏والابتداع – والغلو – والإمعان في طلب التيسير, وإن من أشد موانع الوسطية محاولة تطويع نصوص الشرع ‏لمجاراة الواقع.‏

‏ وهناك جملة من التوصيات التي تجعل ما من شأنه الاهتمام بمفهوم الوسطية ومقتضياته، وهي تتمثل فيما يأتي: ‏

‏1-‏ضرورة التواصل بين النخب العلمية والفكرية في إطار أمثال هذه المؤتمرات والاجتماعات في صورها ‏الدورية وليس الطارئة؛ بحيث تساعد في التوصل إلى قواعد عامة وأطر كلية تحكم المفاهيم وتؤصلها.‏

‏2-‏الإشراف على المناهج بشتى صورها سواء كانت مدرسية أو جامعية، أو مناهج مراكز علمية ودعوية ‏وما شابه ذلك، بغية توحيد الرؤى المفاهيمية ودفع الإشكاليات المتعلقة بمفهوم الوسطية وأمثاله سواء في ‏الجانب التنظيري والجانب الحركي. ‏

‏3-‏الاهتمام بفئة الشباب؛ كونها الغالب عليها التأثر بمناهج الإرهاب والغلو، وهو ما يؤدي إلى إشكاليات ‏منهجية وحركية، ما من شأنها زعزعة المجتمع وخلخلة أركانه، والاهتمام يقتضي وضع برامج تعليمية وعملية ‏من أجل استغلال هذه الفئة فيما هو نافع على المستوى الفردي والمجتمعي، وحل مشاكل البطالة وغيرها. ‏

‏4-‏الاهتمام بالجانب الإعلامي؛ كونه يمثل الوسيلة العظمي في التعبئة على الأفكار المنحرفة، وتساهم في ‏التلقي المخالف لمنهج السلف، وهذا يستدعي أن يساهم المؤتمرون في الدعوة إلى وضع برامج إعلامية توعوية ‏وإرشادية ذات بعد متواصل وليس مؤقتاً، يكون أثرها في المنظور البعيد.‏

‏ 

المراجع

ـ أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط3، 1423هـ/ 2003م.‏

ـ أدب الاختلاف في الإسلام، د. طه جابر العلواني، هيرندن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ‏‏1413هـ/1992م.‏

ـ أدلة الوسطية في القرآن والسنة، د. محمد بن عمر بازمول، بحث منشور ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم ‏في تحقيق الوسطية ودفع الغلو.‏

ـ الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، المنامة، مكتبة التوحيد، ط1، 1421هـ/ 2000م.‏

ـ اقتضاء الصراط المستقيم، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل، طبعة خاصة بالمحقق، ‏ط1، 1404هـ.‏

ـ بيان النظم في القرآن الكريم، محمد فاروق الزين، دمشق، دار الفكر، ط1، 1424هـ/2003.‏

ـ بين علمي أصول الفقه والمقاصد، محمد الحبيب ابن الخوجة، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ‏‏1425هـ/ 2004م.‏

ـ تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الحسيني الزبيدي، الكويت، وزارة الإرشاد والأنباء، 1385هـ/ ‏‏1965م.‏

ـ التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، تونس، الدار التونسية للنشر، 1984م.‏

ـ تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، ط2، بدون ‏تاريخ.‏

ـ تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، الرياض - دار السلام، دمشق – دار الفيحاء، ‏ط2، 1418هـ/ 1998م.‏

ـ تفسير روح البيان، إسماعيل الخلوتي الحنفي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ.‏

ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الكويت، جمعية إحياء التراث، ‏ط2، 1422هـ/ 2001م.‏

ـ الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ/ ‏‏2006م.‏

ـ دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، د. ناصر عبد الكريم العقل، الرياض، دار إشبيلية، ‏ط1، 1418هـ/1997م.‏

ـ دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية ، يوسف القرضاوي ، القاهرة ، دار ‏الشروق ، ط1 ، 1427هـ/ 2006م. ‏

ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين الألوسي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ‏بدون تاريخ.‏

ـ زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط3، 1404هـ/ 1984م.‏

ـ السراج في غريب القرآن، د. محمد عبد العزيز الخضيري، مجلة البيان، ط1، 1429هـ/2008م.‏

ـ سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1405هـ/1985م.‏

ـ صفة الغرباء، سلمان بن فهد العودة، صنعاء، مركز الصديق العلمي، ط4، 1421هـ/2000م.‏

ـ ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأثرها الفقهي، عبد القادر بن حرز الله، الرياض، مكتبة الرشد، ‏ط1، 1428هـ/ 2007م.‏

ـ علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، الرياض، مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ/ ‏‏2001م.‏

ـ علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17، الاجتهاد المقاصدي: حجيته .. ضوابطه .. مجالاته، د. نور ‏الدين بن مختار الخادمي، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1419هـ/ 1998م.‏

ـ الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة لعبد الرحمن بن معلا اللويحق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، ‏‏1423هـ/2002.‏

ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، بيروت، دار المعرفة، 1379م.‏

ـ قواعد ابن رجب، ابن رجب الحنبلي، مكة المكرمة، مكتبة الباز، 1999م.‏

ـ القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها، د. إسماعيل بن حسن بن علوان، الرياض، دار ابن ‏الجوزي، 1420هـ/ 2000م.‏

ـ قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، دمشق، دار الفكر، ط2، 1426هـ/ ‏‏2005م.‏

ـ كتاب الفقيه والتفقه، الخطيب البغدادي، الدمام، دار ابن الجوزي، ط1، 1417هـ/1996م.‏

ـ كشاف اصطلاح الفنون، محمد علي التهانوي، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1996م.‏

ـ كيف نفهم التيسير؟: وقفات مع كتاب ( افعل ولا حرج )، فهد بن سعد أبا حسين، الرياض، دار المحدث، ‏ط1، 1428هـ. ‏

ـ مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة النبوية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، ‏‏1416هـ/1995م.‏

ـ مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر، عبد الرحمن بن معلا اللويحق، طبعة خاصة بالمؤلف، ط1، ‏‏1419هـ/1998م.‏

ـ المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ.‏

ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1425هـ/ ‏‏2004م.‏

ـ مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، د. يوسف أحمد محمد البدوي، الأردن، دار النفائس، ط1، 2000م.‏

ـ ملامح رئيسة للمنهج السلفي، د. علاء بكر، مصر، دار العقيدة، ط2، 2002م.‏

ـ منهاج السنة النبوية، شيخ الإسلام ابن تيمية، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، ‏‏1406هـ/1986م.‏

ـ منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، دار الهدي النبوي، مصر، ط1، 1426هـ/2005م.‏

ـ منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، لندن، المنتدى الإسلامي، ط1، 1412هـ.‏

ـ الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1423هـ/2002م.‏

ـ الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، الخبر، دار عفان، ط1، 1417هـ/1997م.‏

ـ الوسطية في القرآن الكريم ، د. علي محمد الصلابي، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ.‏

ـ الوسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم، القاهرة، دار الفتوح ‏الإسلامية، ط1، 1416هـ/1995م.‏

ـ الوسطية مفهوماً ودلالة، د. محمد ويلالي، بحث منشور في موقع الألوكة. ‏

ـ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، عبد العزيز بن ناصر الجليل، الرياض، دار طيبة، ط1، 1425هـ/2004م.‏

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم