البحوث

درس في حكم موالاة الكافرين

2010-08-17



بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ولي المؤمنين، وعدو الكافرين، والحاكم بين المتنازعين، والهادي إلى من يشاء إلى السبيل المستبين، والصلاة والسلام على من بعثة الله فرقاً بين الناس، ومجلياً للالتباس، ورحمة للعالمين من سائر الأمم والأجناس، واشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة مقتضية لموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين، والاعتصام بحبل الله المتين،وسلوك صراطه المستقيم، أما بعد:

فهذا بحث صغير في موضوع خطير، كنت ألقيته درساً ضمن سلسلة الدروس التربوية لطلاب العلم بمدينة المكلا، وتوسعت فيه للحاجة الماسة إلى تجلية أمره، أمر - موالاة الكافرين - لأنه من القضايا التي فرضها الواقع، فهناك جماعات فكرية وسياسية وأنظمة عربية وإسلامية وقعت في تلك الموالاة المطلقة المكفرة، وترتب على ذلك ردة فعل من قبل دعاة وطلاب علم، فحملهم حماسهم وغَيرتهم على تضخيم أمر الموالاة والغلو في أحكامها، ومخالفة ما هو معروف لدى العلماء من تقسيمها وتنويع حكمها بناءً على ذلك التقسيم ووقوع الناس في تلك الأقسام دون بعض، إما في مراتبها الدنيا المعفو عنها، أو ما هي من قبيل الفسق وصغائر الذنوب، أوفي مراتبها القصوى المكفرة كفراً أكبر، فساووا بين ذلك كله،وساقوه مساقاً واحداً، ثم إن بعض أولئك الدعاة والطلاب أطلقوا لأنفسهم العنان في تنزيل تلك الأحكام، وتعيين أشخاص وجماعات بالحكم عليهم بالكفر والردة.

 

فمن أجل ذلك كله، وخشية من أن تتحول المسألة إلى منهج تكفيري لا يقف عند حد، ولا يسلم منه أحد، كان هذا البحث درساً بالأمس ورسالة مكتوبة اليوم، ومع اعترافي - سلفاً - بقصوره وعدم استيفائه لأطراف موضوعه، إلا أنه جهد المقل، وهو معروض على العلماء وطلاب العلم؛ ليكون مدخلاً لنقاش جاد، وبحث رصين، موصل شباب الأمة وجيلها المتطلع لإقامة هذا الأصل على قواعده الراسخة واضحاً جلياً جامعاً مانعاً؛ ليسد باب الفتنة، ويقشع عنا الغمة التي نخشى أن تلبد سمائنا بالغيوم المظلمة، أو تمطرنا بوابل من الشقاق والفرقة. فإلى كل حريص على جمع الكلمة، ونزع فتيل الفتنة، أقدم هذا البحث لتتضافر الجهود، وتتكاتف الطاقات للوصول إلى المخرج الذي يرضي الله تعالى، ويقي الأمة من الانحراف والتنازع.

وأستغل هذه الفرصة لأكرر ما قلته أثناء البحث، أنني لست محام عن أحد ممن سقط في حمأة الموالاة لأعداء الله، ولست متوسلاً بهذا البحث لرضى أو قبول عند أحد من الناس، وإنما أسأل الله أن يجعله خالصاً لوجهه، محققاً لغرضه الذي هو سد باب من أبواب الفتنة، والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

كتبه / أحمد بن حسن المعلم 0

 

 

 

 

 

( 1 ) خطورة موالاة الكفار:

إن موالاة الكفار من أخطر الأمور وأضرها على المسلمين؛ لما يترتب عليها من تسلط الكفار على المسلمين وضعف شوكة المسلمين؛ ولأن المتلبس بها في أحيان كثيرة يخرج عن الدين، ويلتحق بمن تولاهم من الكافرين.

قال الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله -: ( ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده ) [1] ). .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بعد كلام طويل عن موالاة النصارى وأضرارها على المسلمين، وحال من يتولاهم ممن يظهر الإسلام: (ولا يشير على ولي الأمر بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن، أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه – يعني رشوه - ودخلوا عليه برغبة أو رهبة، أو رجل جاهل في غاية الجهل لايعرف السياسة الشرعية الإلهية، التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين، وإلا فمن كان عارفاً ناصحاً له، أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه ومحبتهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى.

وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم، وفتح لهم البلاد، وأذل لهم الأعداء؛ لما قاموا من ذلك بما قاموا به، وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته ) [2] ).

فلأجل أن يعرف الحكام وأولوا الأمر من المسلمين تلك الخطورة على الإسلام والمسلمين، وعلى الأوطان والشعوب، لابد من تحذيرهم بإظهار عقيدة الولاء والبراء، وإشاعتها حتى يُنبَّه الغافل، ويُعلَّم الجاهل، وتُقام الحجة على المعاند، ويقوم أصل الولاء والبراء على قواعده المحكمة.

 

2 ) وجوب التفريق بين ما أُجمل من القول لأجل الزجر، وبين الكلام في مجال تقرير الأحكام:

هناك عبارات شديدة جداً قيلت من بعض العلماء في مجال الزجر والتشديد على من يوالي الكفار، ولم يقصدوا في حال قولهم ذلك أو كتابتهم تلك البيانات ونحوها تقرير الحكم الشرعي الدقيق في المسألة، فصدرت عنهم تلك الأقوال بتلك الشدة، فلا بد من التفريق بين تلك الأقوال التي صدرت في مناسبات تقتضي الزجر والتشديد، وبين ما يقرره العلماء في مؤلفاتهم الخاصة ببيان الأحكام الشرعية، والتي يُدرَس فيها الأمرُ دراسة شرعية موضوعية، فإنهم هنا يفصِّلون ويبيّنون ويميّزون بين أنواع الموالاة بما لا تجده في تلك البيانات التي قيلت للزجر والتحذير.

وإن أكثر ما أوقع الناس في الخلط والغلط هو الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمواقع الخطاب.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ - رحمه الله - : ( فإن الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن قال ابن القيم - رحمه الله - في كافيته:

فعليــك بالتفصيل والتبيين فالـ ×× إطلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأ ×× ذهان والآراء كل زمان [3] ) .

وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري - رحمه الله - يرد على من كفَّر بعض أولياء الأمر، ومن لاذ بهم من العلماء والأعوان؛ محتجاً بما جاء في رسالة الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ " الدلائل " ومحتجاً بما جاء في رسالة الشيخ حمد بن عتيق " سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك " قال: ( وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة ونحوها وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك أنها هي موالاة المشركين المنهي عنها في الآيات والأحاديث، وربما فهمتم ذلك من" الدلائل " التي صنف الشيخ سليمان بن عبدالله بن الشيخ، ومن " سبيل النجاة " للشيخ حمد بن عتيق .
فأولاً: نبين لكم سبب تصنيف " الدلائل " فإن الشيخ سليمان صنفها لـمَّا هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة وأحبوا ظهورهم، وكذلك سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق " سبيل النجاة " هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من بلاد نجد، فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء،فإنه بحمد الله ظاهر المعنى، فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم ) [4] ) ا.هـ.

قلت : وهاتان الرسالتان كانتا سبباً في انحراف أولئك القوم في وقتهم وإنزال ما جاء فيهما على غير منزله الصحيح، وما زالتا هما الركيزة المهمة للغالين في التكفير من جماعة شكري مصطفى المعروفة بجماعة ( التكفير والهجرة ) ومن تلاها ممن تأثر ببعض أصولها في التكفير من الجماعات الأخرى المعاصرة.

وفي كلام هذين العَلَمين من أعلام الدعوة النجدية رد صريح على من يتمسك بتلك الرسالتين وما في معناهما من إطلاق الكفر على من وقع منه شيء من الموالاة التي لم تصل إلى الحد المكفر المخرج من الملة، وهكذا ينبغي أن يفهم كلام العلماء المتأخرين كمحمد رشيد رضا، وأحمد شاكر، وجمال الدين القاسمي، وعبد العزيز ابن باز وغيرهم، فإنها قيلت في مناسبات تقتضي تشديد النكير على المسارعين في موالاة أعداء الله بشكل مجمل يراد به الزجر عن تلك الموالاة، بينما نجد أولئك جميعاً لم ينزلوا ذلك على أحد بعينه، ولم يحوِّلوا ذلك إلى منهج علمي يسيرون عليه، أو يربون طلاب العلم على تبنيه في كل الأحوال، بل إن محمد رشيد رضا - رحمه الله - له في التفسير كلام يخالف ذلك الإجمال الذي أطلقه في حال موالاة بعض المصرين للإنجليز، الذين هجموا على مصر في أيام حادث قناة السويس وما قبلها وبعدها.

وكذلك جمال الدين القاسمي –رحمه الله - أيضاً له كلام آخر مفصل يختلف عن كلامه الذي نقل في بعض الكتب، وأيضاً الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - له كلام مفصل في غير ما موضع ومع اللجنة الدائمة وغير ذلك.

فليس من المناسب أن يُجعل كلامهم في ذلك أصلاً يرجع إليه ويقاس عليه، ويُفرَّع عنه عند تحرير أحكام هذه المسألة.

وأنا أشهد الله ثم أشهدكم أنني أقول بما يقول به أولئك الأعلام من حيث الإجمال، وأعتقد أن حكاماً وأنظمة وأحزاباً وجماعات سياسية وفكرية قد والت الأعداء الموالاة المطلقة الموجبة للكفر والردة، يكون من وقعت منه تلك الموالاة مرتداً ما لم يمنع من ارتداده مانع شرعي، من غير تعيين لفلان أو فلان أو جهة فلانية؛ لأن هذا يخالف المنهج الصحيح.

غير أني في نفس الوقت أحذر أشد الحذر من جعل تلك القضايا مدار حديث الطلاب وديدنهم في مجالسهم ومراكزهم وتجمعاتهم، حيث أن كثرة الخوض في ذلك وترداده يثير العواطف، ويستفز المشاعر، ويغلبها على العقل، الذي به توزن الأمور وتدرك الحقائق، وكثرة الخوض فيها يجرئُ صغار طلاب العلم ومن لم يُحكِم أدوات النظر على إصدار الأحكام واتهام الأعلام، وتكفير من لا يستحق التكفير، وهذه هي الفتنة التي نخشى حدوثها بل إن بوادرها قد ظهرت وانتشرت.

 

(3) المخرج من الفتنة :

1) والمخرج منها أن يقوم العلماء الكبار وأهل الاستنباط بأداء ما كلفوا به من بيان، وما أمروا به من نصيحة، وما في أعناقهم من أمانة؛ فيبينوا البيان الشافي الذي يرفع اللبس، ويزيل الشبه، ويكشف حقيقة المنافقين والمسارعين في أعداء الله بالحق والعدل، ويمنع المتصدرين من صغار الطلاب والدعاة المتحمسين من التهور والغلو، الذي يصيب أقواماً بجهالة فيصبح أصحابه بعد فوات الأوان على ما فعلوا نادمين.

2) أن تلتزم الأمة كلها حكاماً ومحكومين بالرجوع إلى شرع الله من كتاب الله وسنة رسوله، وما يلحق بهما من مصادر التشريع؛ وذلك من طريق من جعلهم الله أمناء على هذه الشريعة وخلفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وورثة له، وهم العلماء الذين ثبت لهم قدم الصدق، وترسخت فيهم الثقة، وسكنت النفوس واطمأنت إليهم، ممن جمعوا بين العلم والعمل، وبلغوا مرتبة الاجتهاد والفتيا، فهم الذين أمرنا الله بالرجوع إليهم وطاعتهم في قوله تعالى: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (59) سورة النساء، فأولي الأمر هنا الحكام والعلماء، غير أن الحكام إنما يحكمون بما يقرره لهم العلماء إذا لم يكونوا هم من أهل الاجتهاد، فرجع الأمر أخيراً إلى العلماء كما قال الشاعر:

إن الأكابر يحكمون على الورى ×× وعلى الأكابر يحكم العلماء

وهذا في كل الأحوال.

أما في حالة الفتن والأزمات ووجود الحروب العسكرية أو غيرها على المسلمين، فإن الرجوع إليهم أوجب، وقد عاب الله على من تسرع فأذاع خبراً أو اتخذ موقفاً قبل الرجوع إلى أهل العلم والاستنباط والمعرفة بالشرع والواقع الذي يحيط بتلك الأخبار، فقال سبحانه : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (83) سورة النساء.

فمن المخالفة للقرآن والسنة والعقل أن تتخذ المواقف وتنزل الأحكام على الوقائع والهيئات والأشخاص دون الرجوع إلى العلماء. قال ابن سعدي - رحمه الله - في تفسير الآية : ( هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه ولهذا قال ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه ( [5] ) اهـ.

كما أنه من الخطأ أن يتصرف القادة السياسيون، ويتخذون المواقف ويرسمون السياسات دون الرجوع إلى أهل العلم بالشرع.

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم تصدر الجهال وإفتاءهم سبباً من أسباب الضلال، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المشهور: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوساً جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) ( [6] ).

وما يحاول أن يروِّج له البعض في هذه الأيام من عدم لزوم الرجوع إلى الراسخين في العلم والمعروفين به، والإعتياض عنهم بطلاب علم أو دعاة أو رؤساء جماعات أو نحو ذلك؛ فإنه مخالف لمنهج الشرع ومنهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، الذين تميزت أبحاثهم ومؤلفاتهم وفتاواهم وخصوصاً في أبواب العقائد بالرجوع إلى من سبقهم وحكاية أقوالهم والاستدلال بها واعتبارها حجة بينهم وبين الله، ومن تصفح كتاباً من كتب السنة وأصولها من كتب المتقدمين كالإمام أحمد وابنه والعُكبري وابن منده واللالكائي وغيرهم ممن ألفوا في عقائد السلف، فإنه سيجد ذلك واضحاً، ففي كل باب بعد أن يوردوا الآيات والأحاديث وآثار الصحابة يوردون ما قاله وقرره العلماء المتقدمون والأئمة السابقون، بل وحينما يخالف مخالف لتلك الأقوال يقولون له: ائتنا بسند، ائتنا بقول أحد ممن يُقتدى به أو يُعتد بقوله، فهم لا يتنازعون معه ويقولون له: ائتنا بآية أو حديث، لأنه سيفهم الآية والحديث على غير الفهم الصحيح، وإنما يطلبون الآية والحديث ويشترطون أن تكون الآية والحديث مفهومة بفهم من سبقهم من العلماء الأعلام.

فكل عالم أو طالب علم أو داع إلى الله هذه طريقته فهو على طريقة السلف، ومن كان يقول: هم رجال ونحن رجال، ولسنا متقيدين بمن سبقنا ولا يعنينا أو يخصنا أو ليس بحجة علينا ما فهمه علماؤنا المتقدمون، الذين شهد لهم بالتقوى والصلاح والتمسك بمنهج السلف الصالح، من كانت هذه طريقته فليس هو على منهج أهل السنة في الاستدلال وأخذ العلم وطلبه، بل إن له منهجاً آخر بخلاف منهج السلف رضوان الله عليهم، ومن رجع إلى تلك المصنفات عرف صحة هذا القول.

فالدندنة الجارية اليوم بأنه لا مرجعية للقاعدين أو أن الطائفة المنصورة هم المقاتلون فقط ونحو ذلك من الدندنات محدثة لا قيمة لها، وإنما حمل عليها إصرار مدّعيها على تغييب دور العلماء الذين لا يوافقونهم على كثير مما يعتقدونه أو يعملون به.

ومما لا يقل خطأ عما مضى رد كثير من كلام أهل العلم من السابقين من مفسرين ومحدثين وفقهاء وأصوليين فيما يتعلق بأحاديث الوعيد، كون أولئك العلماء قد قيل عنهم أنهم أشاعرة أو متأثرون بالأشاعرة ولديهم شيء من الإرجاء، فهذا سيف مُسْلطٌ على كل فهم يفهمه المحققون والعلماء فيستنبطونه من كلام الله أو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قوبل به هؤلاء وقيل هذا كلام أهل العلم، هذا شرحهم، هذا فهمهم لهذه النصوص، قالوا : ابن حجر متأثر بالأشاعرة، النووي متأثر بالأشاعرة، فلان من المفسرين كالقرطبي أو فلان من المحدثين الآخرين متأثر بالأشاعرة والأشاعرة متأثرون بالإرجاء، وإذن قولهم ليس بحجة في هذا الباب، وهذا تعطيل لجمهور كبير من العلماء، وإضاعة لرصيد ضخم من العلم ما زال علماؤنا وأئمتنا يستفيدون منه ويستشهدون به ويعتمدون عليه في النصوص، ولا أعلم أن أحداً حكم برد كلام هؤلاء بشكل كامل بحجة أنهم أشاعرة، وإنما الأصل الاستفادة من علمهم ورد ما يظهر خطؤه من كلامهم وتقريرهم. فإذا ظهر الخطأ بشكل واضح عند أحدهم، فالخطأ حتى ولو كان من كلام الإمام أحمد أو الإمام الشافعي - فضلاً عن أن يكون من كلام فلان الذي قيل عنه أنه متأثر بالأشعرية _ يُرد، لكن أن نرد كلامه رأساً بحجة أنه متأثر بالأشاعرة ومتأثر بالإرجاء، فهذا شيء لم نكن نعلمه عن علمائنا الذين قرروا لنا عقيدة السلف، فكم من نقل وكم من تقرير وكم من فهم لآية أو حديث إنما أخذه أئمتنا وعلماؤنا مما شرح به الإمام ابن حجر أو النووي أو فلان أو فلان من المفسرين أو المحدثين أو الفقهاء أو الأصوليين، فإن هذا الطرح خطأ مبتدع ليس عليه دليل، ولم يسر عليه أحد من العلماء المعتبرين.

فالقول برد كلام فلان لأنه أشعري فقط دون بيان لسبب تخطئته، كلام مبتدع لا سلف لقائله فيما أعلم.

 

 

 

 

4) ثمار نزع الثقة من العلماء :

في تاريخ الدعوة القريب الكثير من الأمثلة الحية الدالة بما لا شك فيه أن كل طائفة أعجبت بنفسها، وتخلت عن علمائها، ونزعت الثقة منهم، إن مصيرها الفتنة والوصول إلى نهاية مرّوعة.

1- فجماعة ( الإخوان ) هكذا بغير إضافة، أو من يسمون بــ( المجاهدين ) الذين كانوا جنداً للملك عبدالعزيز، وفتح الله بهم عليه معظم أنحاء المملكة، في آخر أمرهم أنكروا عليه أشياء منها العلاقات مع الدول الغريبة الكافرة، حيث وجدوا أنه بدأ يقيم علاقات معها فأنكروا ذلك عليه، وغلوا في ذلك وشددوا النكير، فناصحهم العلماء الكبار من الرياض والقصيم وغيرهما من مواطن العلم - ومن أراد أن يطلع على هذه المناصحات فهي في ( الدرر السنية في الأجوبة النجدية 9 / 89 - 212 ) - فلم يسمعوا لهم ولجوا في إنكارهم واعتزالهم، حتى تطور الأمر إلى رفض لكل ما جاء به العلماء، بل إنهم اتهموا مجموعة من علماء الدعوة الكبار العظماء: كالشيخ سلمان بن سحمان، والشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد ابن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم بالمداهنة والركون إلى السلطان؛ فلما ركبوا رؤوسهم وأصروا على ما فهموه بأنفسهم أو ما فهمه من تصدر منهم من القاصرين، وبعد شدة مناصحة ومراسلة لم يبقَ حل إلا القتال ووقع القتال في معركة "السبلة " عام ( 1347 هـ )، وقتل خلق كثير من الطرفين - الجيش الحكومي وجيش ( الإخوان ) - وذهب في ذلك رجال صالحون وشخصيات لها في الدعوة وطلب العلم والعبادة والزهد مقامات سامية، وحلت بسبب الإعراض عن العلماء كارثة عظيمة.

2- وكذلك الجهاز الخاص الذي أنشأه الشيخ حسن البنا - رحمه الله تعالى - وجعله الجناح العسكري للإخوان، تدرب وتعلم الجوانب العسكرية وعُبئ تعبئة خاطئة وغير سليمة؛ مما جعله يعجب بنفسه ويتهم علماء الجماعة بالوهن والضعف والتردد والمداهنة؛ فأعرض عنهم ونزع الثقة منهم، ولم يرجع إليهم فيما ينويه من أعمال كبيرة ومصيرية، وهذا أمر معروف موجود في كتب الإخوان، هذا الجهاز أنشئ ليكون جناحاً عسكرياً للإخوان المسلمين، فتدربوا وتعلموا فنون القتال وطريقة الدفاع وما أشبه ذلك، وضُخم ذلك في نفوسهم ووجدوا أنه لابد أن يقوموا بشيء، إلى متى يتعلمون؟! إلى متى تبقى الأمور نظرية؟! إلى متى لا يتحول الأمر إلى عمل؟!، والمخابرات الإنجليزية التي كانت تحكم مصر وكذا المخابرات المصرية كانت حريصة على استفزازهم وجرهم إلى المواجهة، وجرهم إلى معركة يخسرون فيها لأنهم غير مستعدين لها، فاستُفِزُوا وقاموا بأعمال متجاهلين العلماء، بل قد حذرهم العلماء، منهم الشيخ حسن البنا - رحمه الله - ومن معه في مكتب الإرشاد، حذروهم غاية التحذير، وحاولوا منعهم بكل ما أوتوا من قوة؛ فرفضوا ذلك وركبوا رؤوسهم، وكان من أبرز ما فعلوه أن قتلوا أولاً القاضي ( الخزندار ) فكان عاقبة ذلك حل جماعة الأخوان، ثم قتلوا رئيس الوزراء المصري ( النقراشي )، فما الذي حصل؟ حصل أن الأمر انقلب عليهم، فهم وحدهم غير قادرين على مواجهة الدولة المصرية ومن ورائها - الحكومة البريطانية - فتم القبض على أكثرهم، ولم يريدوا ذلك فقط، بل كان الثمن الغالي الذي دُفع، أن قُتل الشيخ حسن البنا نفسه - رحمه الله رحمة واسعة - مع أنه معارض معارضة كاملة لهذا التصرف، ولكن الأعداء لا يريدون أن يقطعوا المخلب الذي خدش وجرح، وإنما يريدون أن يصلوا إلى القلب والرأس، ثم بقيت جماعة الإخوان المسلمين محظورة من ذلك الوقت، ولم تعد مرخصة ترخيصاً رسمياً في مصر إلى اليوم، هذه كارثة كبيرة كان لها أسوأ الأثر على الجماعة، ويكفي أن الشيخ حسن البنا - رحمه الله تعالى - ذهب ضحية تمردهم وخروجهم عن قول العلماء، وحظرت دعوة الإخوان المسلمين رسمياً من ذلك الوقت في مصر .

3- وتلا ذلك حادثة الحرم الشهيرة، تلك الحادثة التي ترتب عليها انتهاك بيت الله الحرام وتعطيله خمسة عشر يوماً من العبادة بجميع أنواعها، وإدخال السلاح والقتل والدماء فيه، وترتب على ذلك قتل الآلاف بين الجنود الحكوميين وأفراد تلك الجماعة، وحجاج ليس لهم ذنب إلا أنهم كانوا في ذلك اليوم في هذا المكان، فقُتلوا في داخل الحرم وعلى أبوابه، لماذا حصل هذا كله؟ لأنهم رفضوا العلماء ورفضوا الانصياع لهم واتهموهم بالمداهنة والركون إلى الظلمة، فأصموا أسماعهم وانصرفوا عنهم، ورفضوا قبول كلامهم، وقد حاول العلماء كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ ناصر الدين الألباني - رحمهما الله تعالى - وغيرهما ممن كان له عندهم قيمة ووزن أن يثنوهم عن تلك الأفكار - المؤدية إلى هذا - فرفضوهم، فصارت تلك الكارثة والتي كان من أعظم أسبابها رفض قادة الجماعة التي قامت بها للعلماء، وتخليها عنهم واتهامها لهم باتهامات مختلفة، نزعت بها الثقة عنهم وأصمت بها آذانها عن السماع لنصائحهم وفتاواهم؛ فصاروا إلى ذلك المصير المؤلم.

4- كذلك جماعة شكري مصطفى " جماعة التكفير والهجرة " نفس الكلام كان العلماء يناقشونهم، ويبذلون جهوداً لإقناعهم بالرجوع عن فكرتهم، فما اقتنعوا وصاروا هم يكتبون ويؤلفون وينظِّرون ويقعّدون، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تكفير للأمة بكاملها، إلى أن دارت الدائرة وصارت حادثة اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي - رحمه الله تعالى - من قبلهم، فاستُغلت لتحطيم وإبادة تلك الجماعة من أصلها، ولم يبق إلا شواذ منها مع شيء من الأفكار التي تلقفتها عنهم بعض الجماعات التي جاءت فيما بعد.

5- وكذا جماعات الجهاد في مصر، التي فعلت تلك الأحداث التي تعلمونها جميعاً، ثم بعد ذلك يعتذرون ويتراجعون، ما الذي جعلهم يسيرون هذا المشوار الطويل، ويفعلون هذه الأفعال الكبيرة، ويدينون بتلك التصورات سنين طويلة بعيداً عن العلماء، ثم بعد ذلك كله يرجعون إلى ما عليه أهل العلم؟، وعُرف الخطأ ولكن بعد فتن ومحن لا تعد ولا تحصى، ويزيدون فيعتذرون اعتذارات يرثى لهم فيها، السبب الذي جعلهم يصلون إلى هذا: من البداية لم يضبطوا أنفسهم، فارقوا وردوا وأعجبوا بأنفسهم، واتهموا العلماء بما هم منه برءاء، فوصلوا إلى ذلك.

6- وهكذا جماعات الجهاد في الجزائر وما حصل لها، وما ترتب على تصرفاتها من إزهاق للأرواح وتدمير للممتلكات، سواء من قبلهم أو من قبل الدولة، كل ذلك سببه بُعدهم عن العلماء، واتهامهم لهم بالجبن والركون إلى الظالمين وفقدان البصيرة ... الخ.

7- وهذه فتنة الحوثي القائمة إلى الآن، كان من أعظم أسباب انحراف أصحابها بعد الأسباب الخارجية وتطلعات قادتها السياسية، أن ما يسمى بالشباب المؤمن الذي هو الجناح العسكري لتلك الجماعة، كوَّن له مرجعية خاصة أسبغ عليها القداسة، وأحلها محل جميع العلماء بلا استثناء، حتى لقد رفضوا المرجعيات المجمع عليها عند الزيدية، وأصروا على الأخذ بما قرره حسين بدر الدين الحوثي، فكان منهم ما كان ولا يزال .

فهل اعتبرنا بذلك قبل أن يتكرر أمثال تلك الفتن والمحن؟!.

5) الموالاة :

إن تلك المقدمات التي قدمتها وأطلت فيها هي في نظري مهمة جداً؛ لأنها توطئة لفهم هذا الموضوع الخطير فهماً صحيحاً، فالقضايا المصيرية لا يمكن أن تدرس ارتجالاً وبدون إزالة الموانع التي تمنع من فهمها الفهم الصحيح، ولعلكم بعد تلك المقدمات - إن سلّمتم بها وقبلتموها - تفهمون موضوع الولاء الذي نحن بصدده فهماً صحيحاً - إن شاء الله تعالى - .

تعريف الموالاة :

هي في اللغة :

ضد المعاداة، وهي مأخوذة من القرب والمتابعة والميل إلى من توالي، قال ابن الأعرابي: (الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه و والى فلان فلانا إذا أحبه ) ( [7] ).

وفي الاصطلاح :

عرفت الموالاة بعدة تعريفات منها المجمل ومنها المفصل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( الولاية ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبة والتقرب وأصل العداوة: البغض والبعد، والولي: القريب يقال: هذا يلي هذا. أي يقرب منه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ( [8] ) أي لأقرب رجل إلى الميت. فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} ( [9] ) سورة الممتحنة. فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه؛ ولهذا جاء في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) ( [10] ).

ولما عرفت بهذا التعريف الواسع الشامل دخل فيها أنواع من الموالاة، ما بين مكروه أو صغيرة من صغائر الذنوب إلى كفر مخرج من الملة، قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله -رحمهُ اللهُ-: « وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[ المائدة: 51]، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:57] فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل: الموالاة، هو: الحب والنصرة، والصداقة ودون ذلك: مراتب متعددة؛ ولكل ذنب: حظه وقسطه، من الوعيد والذم؛ وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفى غيره وإنما أشكال الأمر، وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا مممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن ولهذا قال الحسن رضي الله عنه : من العجمة أتوا ) ( [11] ).

أي حينما فهموا القرآن على غير فهمه وأوّلوه على غير تأويله ، قال الحسن : من العجمة أتوا. حيث أنهم أعاجم في الأصل فليس عندهم الاستعداد الكامل للفهم الصحيح لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كونه جاء بلسان عربي مبين، وهم ليسوا من أهله فلا يكون فقههم له كفقه من ولدوا عليه ورضعوه من لبان أمهاتهم، وانفتقت أسماعهم وألسنتهم عليه.

وعليه فإن هذا التعريف يستوعب أنواع الموالاة ومراتبها كلها ما بين المكروه إلى المخرج من الملة، فيقال : هذه موالاة مكروهة أو محرمة أو مكفرة مخرجة من الملة، وقد تكون جائزة لعارض التقية أو في موالاة من أذن الشرع في محبتهم وحسن معاملتهم.

وأما الموالاة بالمعنى الخاص فهي لا تكون إلا مذمومة.

كما عرَّف بعضهم موالاة الكفار بأنها: ( هي التقرب إلى أي نوع منهم أو جميعهم بإظهار المودة لهم والثقة فيهم، أو التصادق معهم أو الوقوف في صفهم على أي نحو كان ).

وعرَّفها بعضهم بقوله: ( موالاة الكفار هي: التقرب إليهم بإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا ) ( [12] )، فعلى هذين التعريفين لا يجوز أن يقال من الموالاة للكفار ما هو جائز أو مكروه، إذ كل ما شمله التعريفان محرم أو مكفر .

وأما بالتعريف الشامل فمنها ما هو مكروه، وقد يتناول الجائز أيضاً.

وعلى ما مضى فإن الموالاة أقسام هي:

القسم الأول :

الموالاة الجائزة :

وهي الموالاة في الظاهر بالكلام وبشاشة الوجه ونحو ذلك ولو بقول كلمة الكفر؛ إذا خاف المؤمن من شر الكافرين وسطوتهم، وهو في سلطانهم وتحت قهرهم مع إبطان بغضهم وعداوتهم، وأن لا يتعدى التظاهر بودهم إلى أفعال محرمة أو موجهة ضد المسلمين، ودليل ذلك قوله تعالى : {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } (28) سورة آل عمران قال الشوكاني - رحمه الله - : ( في ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً) ( [13] ) إذن أصل الإنكار وقولهم بأنه لا يقال أن هناك موالاة جائزة غير صحيح، إذ قد قرر ذلك علماء معتمدون من المتقدمين، وذلك عند تفسيرهم لآية التقية ( [14] ) ومن نفى كونها موالاة فإنما عنى أنها ليست من الموالاة المنهي عنها.

 

 

 

القسم الثاني :

الموالاة المحرمة المفسِّقة:

وهي الموالاة في الظاهر بالفعل خوفاً منهم أو طمعاً في مال أو منصب أو حماية من عدو دون الرضا بما هم عليه أو محبتهم على كفرهم ومبادئهم الكافرة، ودون أن يناصرهم على إخوانه المسلمين رغبة في ظهور الكافرين على المؤمنين. فهذا القسم من الموالاة محرَّم ومفسق وموجب للعقوبة إذا اكتملت شروط المؤاخذة وانتفت موانعها، فهذا القسم وسط: حرام، ذنوب، كبائر، لكنها لا تصل إلى درجة الكفر، ويترتب عليها من الذنب والذم في الدنيا والآخرة بقدر ما حصل من هؤلاء الموالين، ودليل هذا القسم قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، وسيأتي تفصيلها قريباً.

القسم الثالث :

الموالاة المحرمة المكفرة :

وهي موالاتهم لأجل ما هم عليه من الكفر والشرك، وذلك بالرضا بما هم عليه من الكفر أو مناصرتهم على إخوانه المؤمنين؛ رغبةً في ظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله، وهي الموالاة من أجل الدين، فإن هذا كله من الكفر الأكبر المخرج من الملة، كما قال تعالى: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (51) سورة المائدة، فإن محبة ظهور الكفر وغلبته محبة للكفر ورضا به وذلك هو الكفر بعينه، مثل الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية إذا كان يعنيها على حقيقتها التي جاءت من عند الكفار، وتبنيها هو كفر كذلك، وهاك تفسير هذه الآية من كلام العلامة محمد رشيد رضا - وهو من أشد المنكرين لموالاة الكفار وله في ذلك مواقف مشهودة - يقول في تفسير المنار:{ وأما قوله ) : ومن يتولهم منكم فإنه منهم الخ. فهو وعيد لمن يخالف النهي; أي ومن ينصرهم ويستنصر بهم من دون المؤمنين، وهم قلب واحد عليكم، فإنه في الحقيقة منهم لا منكم; لأنه معهم عليكم، ولا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق، فهو إما موافق لمن والاهم في عقيدتهم، أو في عداوتهم لمن والاهم عليهم، وعلى كلتا الحالتين يكون حكمه حكمهم. وقال ابن جرير يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى من خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه }ا.هـ . وبناء على ذلك عدَّ أهل العلم من الصحابة والتابعين كابن عباس والحسن بني تغلب من النصارى لموالاتهم لهم، وأجازوا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، - وهم مشركون - لعدهم من النصارىقال ابن عباس رضي الله عنهما بعد أمره بأكل ذبائحهم وزواج نسائهم وتلاوة الآية: ( لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم )، وقد قيد ابن جرير الولاية بكونها لأجل الدين، كما كانت الحال في ذلك العصر; إذ قام المشركون وأهل الكتاب يعادون المسلمين ويقاتلونهم لأجل دينهم، وقد تقع الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية، فإذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها; لاتفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها، فهذه المحالفة لا تدخل في عموم كلامه; لأنه اشترط أن يكون ذلك لمقاومة المسلمين [15] ) .

يعني أن يكون التعاون معهم ضد المسلمين، فإذا كان هناك من عادى المسلمين ووالى الكافرين، وأحبَّ أن يظهر الكافرون على المسلمين فهذه هي الموالاة المكفرة، ومما يلحق بذلك في الحكم الدنيوي من خرج في جيش الكفار محارباً للمسلمين كما جرى للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حين خرج مع قريش في غزوة بدر، فقد عامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة المشركين، وقال له: ( إن يكن كما تقول فالله يجزيك فأفد نفسك ) ( [16] ) فعامله في الدنيا معاملة الجيش الذي خرج معه ووكل أمر الآخرة إلى الله، وذلك أمر مهم يفيد أن العبرة بما يقوم بالقلب فيما يتعلق بالمصير والحكم عند الله تعالى.


( 6 ) قضية حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه :

إن من يقول بأن كل موالاة للكافرين هي من الكفر أصلاً ما لم يمنع من وقوع الكفر على المعين مانع. ومن يقول بأن من أنواع الموالاة ما هو إثم وفسق دون الكفر وليس بكفر أصلاًَ، كلهم يحتج بقضية حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فلننظر في هذه القضية، وماذا قال عنها العلماء المتقدمون:

عن علي رضي الله عنه قال: قال بَعَثَنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بن الْعَوَّامِ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قال انْطَلِقُوا حتى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فان بها امْرَأَةً من الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ من حَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى الْمُشْرِكِينَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ على بَعِيرٍ لها حَيْثُ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا الْكِتَابُ فقالت ما مَعَنَا كِتَابٌ فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فلم نَرَ كِتَابًا فَقُلْنَا ما كَذَبَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أو لَنُجَرِّدَنَّكِ فلما رَأَتْ الْجِدَّ أَهْوَتْ إلى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ فَانْطَلَقْنَا بها إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال عُمَرُ يا رَسُولَ اللَّهِ قد خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ قال حَاطِبٌ والله ما بِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ الله بها عن أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ أَحَدٌ من أَصْحَابِكَ إلا له هُنَاكَ من عَشِيرَتِهِ من يَدْفَعُ الله بِهِ عن أَهْلِهِ وَمَالِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم صَدَقَ ولا تَقُولُوا له إلا خَيْرًا فقال عُمَرُ إنه قد خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ فقال أَلَيْسَ من أَهْلِ بَدْرٍ فقال لَعَلَّ اللَّهَ أطلع إلى أَهْلِ بَدْرٍ فقال أعملوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أو فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وقال الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ( [17] ).

هذا هو نص القصة كما في البخاري.

والغرض من إيرادها معرفة ما دلت عليه من حكم الموالي للكفار، هل هو كافر مطلقاً أم أنه يكفر في بعض الصور ولا يكفر في بعضها الآخر؟. ومبنى الخلاف على ما يؤخذ من هذه القصة.

أيقال: إن فعل حاطب كان كفراً غير أن سابقته وشهوده بدراً وتأويله منع من وقوع الكفر عليه؟ أم أن ما وقع منه كان ذنباً كفّره ما ذكر؟:

في المذكرة التي كتبها الشيخ ناصر بن حمد الفهد وقدم لها المشايخ: حمود بن عقلاء الشعيبي، وسليمان بن ناصر العلوان، وعلي بن خضير الخضير، يقول الفهد: ( فعل حاطب رضي الله عنه اختلف فيه هل هو كفر أو لا؟ )

قلت : ولم يورد قول أحد من القائلين بأنه كفر، ولا ممن قال بأنه ليس بكفر.

وأنا لم أطلع إلى الآن على من قال بأنه كفر من الأئمة والعلماء المتقدمين المعوّل على كلامهم.

وأما من قال أنه ليس بكفر، فقد صرح به الإمام الشافعي والإمام ابن تيمية والإمام ابن الوزير وقرر مقتضى ذلك جماعات من الفقهاء، وإليك أقوال المصرحين بأنه معصية وذنب وليس بكفر:

ففي كتاب " الأم " في كتاب الحكم في قتال المشركين ومسألة الحربي:

( باب الْمُسْلِمُ يَدُلُّ الْمُشْرِكِينَ على عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ
- قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ أَرَأَيْت الْمُسْلِمَ يَكْتُبُ إلَى الْمُشْرِكِينَ من أَهْلِ الْحَرْبِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ غَزْوَهُمْ.

أو بِالْعَوْرَةِ من عَوْرَاتِهِمْ.

هل يُحِلُّ ذلك دَمَهُ وَيَكُونُ في ذلك دَلَالَةٌ على مُمَالَأَةِ الْمُشْرِكِينَ؟.

( قال الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- : ( لَا يَحِلُّ دَمُ من ثَبَتَتْ له حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ أو يَزْنِيَ بَعْدَ إحْصَانٍ أو يَكْفُرَ كُفْرًا بَيِّنًا بَعْدَ إيمَانٍ، ثُمَّ يَثْبُتُ على الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الدَّلَالَةُ على عَوْرَةِ مُسْلِمٍ وَلَا تَأْيِيدُ كَافِرٍ بِأَنْ يُحَذِّرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ منه غِرَّة لِيُحَذَّرَهَا أو يَتَقَدَّمَ في نِكَايَةِ الْمُسْلِمِينَ بِكُفْرٍ بَيِّنٍ، فَقُلْت لِلشَّافِعِيِّ: أَقَلْت هذا خبراً أَمْ قِيَاسًا، قال: قُلْتُهُ بِمَا لَا يَسَعُ مُسْلِمًا عَلِمَهُ عِنْدِي أَنْ يُخَالِفَهُ بِالسُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ.

فَقِيلَ لِلشَّافِعِيِّ: فاذكر السُّنَّةِ فيه.

فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ثم قال: في هذا الحديث مع ما وَصَفْنَا لَك طَرْحُ الْحُكْمِ بِاسْتِعْمَالِ الظُّنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كان الْكِتَابُ:

1- يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ما قال حَاطِبٌ كما قال من أَنَّهُ لم يَفْعَلْهُ شَاكًّا في الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ فَعَلَهُ لِيَمْنَعَ أَهْلَهُ.

2- وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَلَّةً لَا رَغْبَةً عن الْإِسْلَامِ.

3- وَاحْتَمَلَ الْمَعْنَى الْأَقْبَحَ، كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا اُحْتُمِلَ فِعْلُهُ وَحُكْمُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه بِأَنْ لم يَقْتُلْهُ، ولم يَسْتَعْمِلْ عليه الْأَغْلَبَ وَلَا أَحَدٌ أتى في مِثْلِ هذا أَعْظَمُ في الظَّاهِرِ من هذا؛ لِأَنَّ أَمْرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُبَايِنٌ في عَظَمَتِهِ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ بَعْدَهُ. فإذا كان من خَابَرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُرِيدُ غِرَّتَهُمْ فَصَدَّقَهُ ما عَابَ عليه الْأَغْلَبَ مِمَّا يَقَعُ في النُّفُوسِ، فَيَكُونُ لِذَلِكَ مَقْبُولًا؛ كان من بَعْدِهِ في أَقَلَّ من حَالِهِ وَأَوْلَى أَنْ يَقْبَلَ منه مِثْلَ ما قَبِلَ منه ) ( [18] ).

يعني يقول الإمام الشافعي : إن الأدلة على سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوازيها شيء، طبعاً الدلالة على سر المسلمين وتسربها إلى الكافرين كل ذلك خطأ كبير وذنب عظيم وخيانة، إذا كان هذا في آحاد الناس فما ظنك إذا كان إفشاءً لسر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أعظم وأعظم، ومع ذلك ما حكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالردة، فما كان بعد ذلك من مثل هذا النوع مما يكون من إفشاء السر، وهذا نوع كبير من الموالاة للأعداء، فهو أقل من ذلك، فإذا لم يكن ردة وكفراً يبيح دم الإنسان في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن لا يبيح دمه ولا يجعله مرتداً في حق غيره من الناس.

فهذا كلام صريح في أن الشافعي لا يرى ما وقع من حاطب مكفراً، وإنما هو ذنب فقط وأن الذي عفى عنه بالتأويل هو العقوبة والمؤاخذة.

وقال ابن بطال - رحمه الله - في شرح البخاري في شرح هذا الحديث: ( وفيه أن الجاسوس قد يكون مؤمناً وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان ) ( [19] ).

قلت : مع أن عمل الجاسوس موالاة لا شك فيها، وقال الإمام ابن الوزير - رحمه الله - في " إيثار الحق على الخلق ": ( وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره و العاصي لمعصيته ونحو ذلك ) ( [20] ).

قلت : وهو كلام والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة - ذكر منها الترخيص في مصاحبة الوالدين وذكر النصوص في ذلك ثم قال: (ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث علي عليه السلام في قصة حاطب على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة، وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قبل عذره بالخوف على أهله في مكة والتقية بما لا يضر في ظنه

فان قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله: ( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟.

قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان وعدم موالاة المشركين لشركهم؛ ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: ( يا أيها الذين آمنوا ) والعموم نص في سببه - يعني أنه أدخل حاطب في جملة المؤمنين وهذا نص لأنه سبب النزول- فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فانه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم ) الخ ( [21] ).

ولابن تيمية تقريرات مهمة في هذه المسألة في عدة مواضع منها: في " منهاج السنة " ( 4 / 330 ) وفي " مجموع الفتاوى "( 7 / 522، 4 / 460، 7 / 486 - 487 ) " والصارم المسلول " ( 2 / 340 - 341 ، 2 / 372 ) وغير تلك المواضع التي جمعها الشيخ صالح باكرمان في كتيبه الذي بعنوان " أقوال الإمامين الشافعي وابن تيمية - رحمهما الله - في بيان حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ).

وأما ما كان من أقوال العلماء الآخرين المقتضبة لعدم الكفر فمنها: قول من قال منهم لا يُقتل الجاسوس إلا بشروط معينة، فإن ذلك دليل على عدم ردته إذ لو كان مرتداً لحكم بقتله، وقد قال بهذا المالكية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء بأن الجاسوس لا يقتل بمجرد تجسسه، مع أن تجسسه للكافرين على المسلمين - لا شك - أنه نوع من موالاتهم.

والخلاصة :

أخيراً نخلص من هذا البحث :

1 ) أن الموالاة يدخل فيها ما هو مباح وما هو مكروه، وما هو بين صغائر أو كبائر الذنوب وما هو ردة عن الإسلام،وبكل ذلك قد قال العلماء فلا إنكار على من قال بهذا التقسيم.

2 ) أن ما فعله حاطب رضي الله عنه ليس بكفر وإنما هو ذنب، وإن الله عز وجل عفا عنه وغفر له بسابقته وحضوره بدراً، لم يغفر له الكفر وإنما غفر له لأنه ذنب، إذ أنه لو كان كفراً لحبط ذلك العمل، ومعاذ الله أن يعود كافراً من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر والرضوان وغيرهما.

3 ) أنه ينبغي التفريق بين فعل حاطب الذي كان مرة واحدة مع القرائن الواضحة على صدقه وبُعده عن النفاق، وما هو مثله أو قريب منه، وبين من تكاثرت القرائن على كذبه ونفاقه وظهرت الأمارات على توليه الكافرين ومحبتهم ومحبة الكثير من عقائدهم أو مبادئهم المنافية للإسلام، أو أفعاله الظاهرة في حرب الإسلام والمسلمين الدالة على بغضه وعداوته لهم فهذا لون آخر ، فينبغي ألا نُخطئ في فهم هذه القصة، وألا نحملها على كل الذي يجري الآن، فإذا قيل لنا حصل وحصل قلنا: لا، قصة حاطب. فقصة حاطب ليست عصا نتكئ بها لإخفاء الواقع الذي كالشمس، وليس مسوِّغاً نسوغ به لمن غرق في وحل الموالاة، ولمن أظهر وبدون حياء في بعض الأحيان وصرّح بكل أنواع التصريح أنه مع الكفار سواء في مبادئهم أو في مواقفهم أو في عداوتهم للمسلمين، أو ما أشبه ذلك، فهل نقول هذا ليس عليه شيء لأنه مثل حاطب رضي الله عنه؟! أبداً لا يجوز أن نقول ذلك، فلا إفراط ولا تفريط، كما أننا ننهى عن أن يكفر من ليس بكافر، كذلك لا يجوز أن ندافع عمّن رضي لنفسه الكفر أو النفاق أو الفسوق أو أي عمل قبيح، غير أنه ينبغي أن لا نجعل ديدننا في كل الأحوال أن يكون حديثنا في هذا الأمر بحيث يصيب من يستحق ومن لا يستحق، ويبدأ الشباب يتحدثون ويتوسعون ويضيفون على ما يقوله العلماء، وينطلقون دون ضوابط حتى تعود إلينا مرة أخرى جماعة ( شكري مصطفى )، وغيرها من الجماعات، وما حصل في الجزائر وما حصل هنا وهناك, فهذا الذي نحن نحاربه ونرفضه لأن الأفعال لا تكون إلا بعد الاقتناع والتسليم نظرياً فتتبعها الأفعال بعد ذلك.

4 ) ينبغي أن يكون التحقيق والتدقيق في الكلام وفي الفتاوى والبيانات وفي تقرير المسائل العلمية أن يكون دقيقاً مفصلاً، فلا نجامل أو نحاول أن نحمي أنفسنا بكلام يوهم الناس خلاف الحقيقة، ولا نفتح الباب للتكفير الذي لا يتوقف عند حدود، فمسألة الولاء والبراء، ومسألة الحاكمية، يجب أن يتصدى لها العلماء، وأن يقدّموها بشكلها الصحيح، وبتعريفاتها وتفصيلاتها الصحيحة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } لأننا إن تراخينا أفسدنا على الناس دينهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

  

 


[1] مجموعة التوحيد ص257

[2] مجموع الفتاوى 28 / 642 _ 643

[3] أصول وضوابط في التكفير 17 - 18

[4] الدرر السنية 9 / 157 - 158

[5] تفسير السعدي 1 / 190.

[6] البخاري برقم ( 100 ) كتاب العلم - باب قبض العلم - فتح الباري 1 / 194 ، ومسلم - باب رفع العلم وقبضه برقم ( 2673 ).

[7] لسان العرب 15 / 409.

[8] رواه البخاري برقم 6351 ومسلم برقم 1615.

[9] سورة الممتحنة آية 1 .

[10] الفرقان ص7.

[11] أصول وضوابط في التكفير ص26.

[12] الإيمان لمحمد نعيم ياسين ص145.

[13] فتح القدير 1 / 331.

[14] انظر: تفسير الطبري (3/ 152 - 154 ) والبغوي ( 2 / 25 - 26 ) وابن كثير ( 2 / 23 - 24 ) وفتح القدير ( 1/331 - 332.).

[15] المنار 6 / 430.

[16] رواه الحاكم 3 / 324 والبيهقي 6/ 322 وسنده حسن.

[17] رواه البخاري 4 / 1463 برقم 3762.

[18] الأم 4 / 249 - 250 طبعة دار المعرفة

[19] شرح البخاري 5 / 163.

[20] إيثار الحق على الخلق 1 / 371.

[21] إيثار الحق ص 410.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم