الخطب والمحاضرات

خطبة عيد الأضحى لعام 1426

2010-01-07



 

الحمد الله الذي عوض أمة محمد عن قصر أعمارها بما خصها به من الأيام الفاضلات، وجبر ضعف أجسادها بما أكرمها به من مضاعفة الحسنات، وكافأها عن تأخر زمانها بالسبق إلى الجنات والارتقاء في الدرجات

والصلاة والسلام على أشرف من صلى ونحر، وحج واعتمر، ووقف بعرفة والمشعر، وعلى آله المطهرين من الأدناس، وصحابته أولي القوة والبأس، والتابعين لهم بإحسان من الصالحين الأكياس.

وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةَ ملتجئ إلى بابه، مستعيناً بجنابه، مفتقراً إلى فضله وثوابه،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادةً توجب حسن الإتباع، وتعصم من الضلال والابتداع.

وأوصيكم عباد الله بوصية الله للأولين والآخرين: التقوى، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( تكبير)

عباد الله :

إنكم في أيام من أيام الله العظيمة الخالدة، عشر ذي الحجة، التي تضاعف فيه الأجور والحسنات، ويتسابق فيها الصالحون إلى كسب الحسنات ونيل الدرجات؛ لأن العمل الصالح فيها أفضل من غيرها من سائر الأيام بشهادة من لا ينطق عن الهوى، وخيرها وأفضلها بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا اليوم يوم الحج الأكبر والعيد الأزهر، يوم النحر يوم القربان والأضاحي.

وهو مفضل بذاته وبما جعل الله فيه من جلائل الأعمال للحجاج وأهل الأمصار، فالحجيج فيه ينفرون من مزدلفة، ويرمون الجمرة الكبرى، وينحرون، ويحلقون، ويطوفون، ويسعون، فمعظم أعمال الحج في هذا اليوم، ومن لم يحج فإنه يصلي العيد، ويعلن التكبير والتحميد، ويذبح الأضحية لله العزيز الحميد.(تكبير)

والأضحية سنة إبراهيم ورمز التضحية والفداء، وإخلاص القلب لله وتقديم محبته سبحانه على من سواه، أمر إبراهيم بذبح وحيده وثمرة فؤاده وأجاب دون تردد، وعرض الأمر على إسماعيل فاستسلم ولم يتمرد، فكانوا ذرية بعضها من بعض حنفاء لله وما كانوا من المشركين، وصاروا قدوة للموحدين وأئمة للمؤمنين: ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه إجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) واتبعه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأحيى سنة الأضحية، وضحى بكبشين أملحين أقرنين سمينين موجوئين تعظيماً لهذه الشعيرة، وامتثالاً لقول الله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) فعلينا أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم فنضحي بأفضل وأجمل وأسمن ما نجد ونقدر عليه، ولا يمنعنا ما يتعلل به البعض من أننا غير قادرين على إخراج شيء منها، فلمَ لا نقدر على التضحية بجزء يسير من الشاة والناقة، وقد ضحى إبراهيم بابنه وعزم على ذبحه إرضاءً لله، وكيف يليق بمن باع لله نفسه وماله أن يبخل بثمين أو ربع من ذبيحة؟ إن هذا لهو الشح المطاع، ومع ذلك فإن من عجز أو بخل عن التصدق بشيء من أضحيته فالأضحية صحيحة، وإن حرم الأجر وقصر في السنة، فضحوا بارك الله فيكم وطيبوا بها نفساً.(تكبير)

عباد الله :

إنها لفرصة عظيمة أن يجتمع المسلمون في هذه المشاهد الكبيرة، والجموع الغفيرة؛ ليتدارسوا أوضاعهم ويتواصوا بالحق والصبر، وإن المسألة الأمنية من أعظم المسائل والقضايا التي يجب أن تناقش ويبحث لها عن حلول، بها ينعم الناس، ويودعون الخوف والقلق، والأمن من أعظم النعم، امتن الله به على الأمم مشيراً إلى أنه من أعظم مقومات الحياة: ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيه السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين ) وقال ممتناً على قريش: ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) ولو أن هناك نعمة أعظم من نعمة الأمن والإطعام لذكرها؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أصبح منكم آمناً في سربه معفى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) ( [1] ) فعليه فلا غرابة أن تأخذ المسألة الأمنية هذا الحيز الكبير من اهتمامات الشعب والدولة، فالاختلالات الأمنية هاجس مؤلم ومزعج، يروع المواطن، ويطرد رأس المال، ويخيف المستثمر، ويعيق مسيرة التنمية، ويسيء إلى سمعة البلاد، فهل يحظى تثبيت الأمن والاستقرار باهتمام حقيقي من المعنيين؟.

لقد حصلت اختلالات كثيرة في فترات متعددة، ولكنها لم تحظَ بالمعالجات الصائبة والحاسمة حتى تجرأ المفسدون، ونشط المخربون، ويئس المصلحون من الحل الناجع السليم، وإن كانت قليلة لدينا مقارنة بغيرنا، ولكننا نطمح إلى مزيد من الأمن. حتى جاءت حوادث اختطاف السياح الأجانب فقصمت ظهر البعير، وأبانت شدة الحاجة إلى الإصلاح والتغيير، وتعالت الأصوات منددة بها من شتى شرائح وطبقات المجتمع، ثم أتى الحسم العسكري فأعاد للدولة شيئاً من هيبتها وسمعتها الطيبة في الخارج وهذا شيء جميل. ولكن!! هل اختصرت المشاكل الأمنية في اختطاف السياح.واختصرت الحلول المطلوبة في الإفراج عنهم؟ كلا.

إن الذي يطمح إليه المواطن وتوجبه المسؤولية والأمانة هو المعالجات الشاملة لكل الاختلالات الأمنية، هو إشعار المواطن بالأمن الشامل الدائم، وطمأنة المستثمر الذي تحرص على جلبه وجلب أمواله، بأنه لن يتعرض لابتزاز أو بغي، وإشعار المفسدين الكبار قبل الصغار بأن عهد التسلط والابتزاز واستخدام النفوذ لترويع الآمنين وظلم الضعفاء والمساكين قد زال، وإظهار الحزم الذي يطال كبار المفسدين ويخيف سائر المجرمين ويلقي بظلاله على سائر الميادين، هذا هو المطلب الحقيقي الذي يسعى إليه كل مخلص للوطن والمواطنين.

أما التوقف عند السياح وحمايتهم وتأمينهم والضرب بيد من حديد على من يتعرض لهم، مع إهمال أمن المواطنين وعدم الجدية في معالجة مشاكلهم وتأمين حياتهم، فإنما يولد المزيد من الإحباط، ويحدث الكثير من اليأس، ويفتح الباب للمزيد من الفتن، حيث سيستغله المغرضون، ويتاجر به العملاء والمأجورون، ويتسلط به الأعداء المتربصون، وقبل ذلك وبعده يسخط به رب العالمين، ويسلط علينا عقوبته التي لا قبل لنا بها، وتلك سنته فيمن خان أمانته في مسئوليته، ولم يرفق برعيته.

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )

واعلموا عباد الله أن الأمن الحقيقي لن يتحقق إلا بتقوى الله وقوة الإيمان ونشر العلم الشرعي في أوساط المجتمع؛ فإن مجتمعاً مؤمن بالله، عارف بحقوقه وحقوق عباده، خائف من عواقب الذنوب والجرائم، هو الذي يظلله الأمن وتسوده المحبة وتزول عنه المخاوف والضغائن والأحقاد المنغصة لعيشه؛ وذلك لمعرفته بربه وتقديره حق قدره:   ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وكلما كان العلم والإيمان أقوى كان الأمن أتم: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) .

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الذي جعل العيد مظهراً من مظاهر شكره، وموطناً لعبادته وذكره، وإجماماً للنفوس لتستأنف نشاطها لامتثال نهيه وأمره.

والصلاة والسلام على من كسا العيد بحلل الفرح والسرور، وأحاطها بما يمنع من وقوع الإثم والفجور، وشرع فيه من البر والصلة ما يشرح الصدور ويجبر الكسور، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والنشور، وسلم تسليماً كثيراً مباركاً غير مقطوع ولا محصور.

وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أرجو أن يشرح بها صدري، ويختم بها عمري، ويصلح بها أمري، وأشهد أن محمداً رسول الله شهادةً توجب محبته وإتباعه، وترفع من استجاب له وأطاعه.

وأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فاتقوه على كل حال، واتقوه في عيدكم فإن العيد ليس أيام أكل وشرب فقط، ولكنها أيام أكل وشرب وذكر لله.(تكبير).

عباد الله :

إن العيد هذا العام ليحمل بشائر طيبة للمسلمين، فبعد أن انسحبت إسرائيل من قطاع غزة تحت وطأة الانتفاضة المباركة خلال هذا العام، هاهي الأخبار والتقارير والتحليلات من داخل أمريكا وبريطانيا ومن خارجها تؤكد الراقدين بالهزيمة وعزمها على الانسحاب؛ نتيجة للضربات الموجعة التي تلقتها على أيدي المجاهدين الصادقين والمقاومين الشجعان، وهذا أمر لم يعد سراً بل قد سمعتم به جميعاً، إن هذه بشارة ولكني لا أسوقها لمجرد التبشير ودغدغة العواطف، وإنما يجب أن نقف عندها لنفقه الدرس، و نستقرأ الحقائق استقراءً واعياً، بمنظور الوحي الذي يهدي للتي هي أقوم، من كتاب الله وهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك المنطلق فإن بإمكاننا أن نثبت حقيقة كبيرة وهي صدق وعد الله تعالى القائل: (ومن أصدق من الله قيلاً ) ( ومن أصدق من الله حديثاً ) ( إن الله لا يخلف الميعاد ).

فقد تحقق ما وعد به من كبت الكافرين ودحرهم وغلبهم تصديقاً لقوله: ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) وقوله تعالى: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) هذا الوعد الذي شكك فيه الكثير من الذين لا يوقنون، فردد ما قاله المنافقون الأولون: ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ) ولكن بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه كأني بكثير منهم يقول: ( يا ليتني كنت معهم ....) مع مَن رفع راية الجهاد: ( فأفوز فوزاً عظيماً) ،بعكس المؤمنين الصادقين الموقنين الذين قالوا حينما تكاثرت الجموع وتفاقمت الخطوب وضاقت النفوس: ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) فيجب أن نعتبر بهذا الدرس العظيم، فنصدق بوعد الله ونتوكل عليه، ونجعله حسبنا ونعم الوكيل ، فلا نذل ولا نرضخ إلا له سبحانه وهو يتولى الدفاع عنا وكبت أعدائنا ورد كيدهم عنا وهو القائل: ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) والقائل تعالى: ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) وهاهي بشائر تحقيق النصر ظاهرة، عسى الله أن يتمها ولا يسلط من إخواننا وأبنائنا من يتسبب في إفشالها، ولنعتبر بتأديب الله تعالى لأصحاب نبيه في أعقاب غزوة أحد: ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونه بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) فقد بدأ النصر للمسلمين، ولكن ذنوبهم واختلافهم صرفهم عنهم، فإياكم معشر المسلمين أن تصرفوا النصر بالذنب والتنازع والفشل

ورسالة أبعثها لقادة المسلمين:

اغتنموا الفرصة ووحدوا صفكم، واحزموا أمركم، وألقوا قيود وأكبال التبعية عنكم،فلتعلنوها صرخة مدوية: ( إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) واعلموا أنكم أكثر جمعاً وأرشد طريقة، ولديكم من الإمكانيات ما تستغنون بها عن عدوكم، وهو محتاج إليكم أكثر مما أنتم محتاجون إليه، فاحسموا الخيار وكونوا من حزب الله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .(تكبير).

عباد الله:

إن العيد مظهر عظيم من مظاهر شكر الله، فالإعلان بالتكبير شكر لله، والاجتماع العظيم لصلاة العيد شكر لله، والتوسعة على العيال باللبس والطعام مادام في حدود ما أحل الله شكر لله، واللهو المباح شكر لله، ولكنّ بعض الناس لا يريد أن يكون من الشاكرين وإنما ممن قال الله فيهم: ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا أقوامهم دار البوار ) نعم إن ممن لم يشكر الله: من تخلت عن حجابها وأسفرت عن محاسنها، ولبست الثياب الكاسية العارية، التي تغص بها الأسواق ويغضي عنها أرباب الأسر وولاة أمور النساء، ويغرقنا بها مصممو الأزياء وتجار الملابس الذين يثرون على حساب الفضيلة ونشر الرذيلة وإشاعة المنكر بين الناس، يذهبن إلى أماكن الاختلاط ومواطن الفحش ويتعرضن للمغازلات والإغراءات دون أن يُغار عليهن، وممن لم يشكر الله: من يفتح محله - فندقاً أو استراحة أو حديقة أو مقهىً - ليختلط فيه الرجال بالنساء وتحصل فيه المنكرات وتذبح فيه الفضيلة.

وممن لم يشكر الله: كل مسئول له سلطة في إنكار المنكر ثم يضيع أمانته ويتخلى عن مسئوليته، ويترك المنكرات تنتشر بنظره وربما برعايته.

إن هؤلاء جميعاً لم يشكروا الله، ولم يعطوا العيد حقها، فمن حقهم أن يبكوا إذا ضحك الناس، وأن يحزنوا على شقاوتهم إذا فرح بسعادتهم الناس.

فليس العيد لمن لبس الجديد، ولكنه لمن شكر العزيز الحميد.(دعاء).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سنن الترمذي : كتاب الزهد - باب في التوكل على الله ، حديث رقم (2346) ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه : كتاب الزهد - باب القناعة ، حديث رقم (4141) وهو حديث حسن

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم